دمشق | «أم علي»، سيدة خمسينية، تجلس بجسدها الضخم على كرسيها أمام فرن عباس الرابع في منطقة الفحامة في دمشق وكأنها «شيخ الكار». تبيع ربطة الخبز علانية بـ75 ليرة بزيادة قدرها 40 ليرة عن سعرها الرسمي. تمنع أي شخص من الحضور في «منطقة عملها»، الا أنّ الناس يعاملونها بمحبة مصحوبة بخوف من لسانها السليط. تعمل بتجارة الخبز بسبب «تهجيري من بيتي وعدم وجود معيل لابني الوحيد بعد زواج والده وسفره إلى لبنان». تقول لـ«الأخبار» إنها تحتاج الى «قرابة ثلاثين ألفاً شهرياً ثمناً لإيجار البيت والدواء. امرأة مثلي ماذا يُمكن أن تفعل في هذا الوضع؟». اضافةً الى ذلك: «أشتري يومياً بألف ليرة فقط، علماً أن غيري يأخذ كمية قد تتجاوز قيمتها الأربعة آلاف».
المشهد نفسه يتكرر أمام فرن باب الجابية القريب من مديرية التجارة الداخلية في دمشق. فتاة عشرينية تجلس مع والدتها وعدد من الأطفال يبيعون كيس النايلون الواحد لتعبئة الخبز بـ10 ليرات. ما هو سبب مضاعفة سعر الخبز؟ ترد الفتاة حانقة: «لن أخبر أحداً بسر مصلحتي».
من جهتها، تؤكد حنان محسن أن «مشرف الفرن يبيع الربطة بـ50 ليرة ويرفع سعرها الى 75 ليرة من أجل الربح»، مشيرةً الى أنها تبيع الخبز لأحد المطاعم «اختصاراً للجهد والوقت». أمل ابراهيم، الثلاثينية، أيضاً تبيع الكميات المُخصصة بالمفرق والجملة للمطاعم بأسعار تراوح بين الـ65 والـ75 ليرة.
مشرفو الأفران يرفضون هذا الاتهام. يوضح مشرفو فرن باب الجابية وعباس الرابع أن «كميات الخبز للشخص الواحد لا تتعدى الـ 500 ليرة يومياً. والادعاء ببيع كميات بـ 5 آلاف ليرة للمطاعم غير صحيح». أما الرقابة التموينية، فردّت على المخالفات، وأكد معاون مدير التجارة الداخلية في دمشق محمود الخطيب أن «المتاجرة بالخبز لا تقبل التسوية. المُخالف يجب أن يُقدم إلى القضاء».

عمالة الأطفال... مخالفة أخرى

تجارة الخبز تعتمد على الأطفال الذين يُعدّ عملهم مخالفة، ولكنه يُبرر غالباً بتداعيات الحرب.
أحمد برقاوي (12 عاماً) يبيع الخبز في فرن شربيشات. يقول إنه ترك المدرسة «بسبب الحرب، وحاليا أحقق ربحاً مقبولاً يصل يومياً لقرابة الـ 1500 ليرة». من جهتها تبدو رولا مسعود (14 عاماً) خجلة وهي تُخبر كيف تبيع هي واخوتها الخبز «بعلم أهلنا. نقف في الطابور لأخذ كميات من الخبز، الذي نشتريه عادة من فرن كفرسوسة. العمل في هذه المنطقة أفضل لعدم اكتراث سكانها بالسعر المرتفع».
عمالة الأطفال يصفها الخطيب بالمشكلة الفعلية التي تواجه المراقبين التموينيين الذين «يتعاملون مع بعض الحالات برحمة خشية التعرض لحوادث هم بغنى عنها». في هذا الاطار، يجزم رئيس لجنة المخابز الاحتياطية زياد هزاع بأن «قلة فرص العمل والتهجير ساهما بزيادة هذه الظاهرة ويبرز ذلك من خلال نوعية المواطنين أمام الأفران وأغلبهم من الأطفال». هناك أيضاً «أفراد يعملون لتحقيق أرباح زائدة لا لتأمين كفاف العيش. هذا يُخسر الحكومة ملايين الليرات لتأمينها».

ادعاءات إنسانية

هذا الواقع لم يثبت، حتى الآن، وجود تواطؤ بين باعة الخبز ومشرفي المخابز، الا أن الملاحظ أن ربطات الخبز بحوزة الباعة لا تتجاوز الثلاث، فيمكن لأي مواطن شراؤها من الفرن وبيعها خارجه. المسؤولية تُلقيها الأغلبية على المشرفين «لتسويغ رفع السعر»، كما يقول هزاع مُبرراً انتشار المتاجرة بالخبز أمام أفران الاحتياطية، فيما ينفي مدير المخابز الآلية عثمان حامد ذلك: «ليس لأن موظفي المخابز أوادم، لكن آلية العمل لا تسمح بالتلاعب بكميات الخبز وببيعها بسعر زائد».
مشرفو الأفران الخاصة والعامة لا يترددون في التواطؤ بينهم وبين باعة الخبز. فيتساءل مشرف فرن باب الجابية عن السبب «الذي يدفع شابة تتعرض لمضايقات كثيرة للعمل ببيع الخبز إذ لم تكن مضطرة». يرفض فكرة استغلاله حاجة المواطنين لبيع الخبز بسعر أعلى، «فالمخالفة الوحيدة هي بيع الخبز دون كيس جراء نفقات الأفران الخاصة الكثيرة. وعموما المخالفات على أصولها تبرز بفرن شربيشات»، كما يؤكد مشرف فرن عباس الرابع.
اتهامات الأفران الخاصة يدرجها الحكومي مشرف شربيشات في إطار «المنافسة المعروفة الغايات»، نافياً تخصيص نافذة لبيع الخبز بـ50 ليرة: «كيف يحصل ذلك وقد طلبنا من التموين مكافحة ظاهرة بيع الخبز أمام الفرن ومحاسبة المخالفين؟». أما مشرف فرن المخابز الاحتياطية في منطقة المزة، فيؤكد أن «تراجع جودة الخبز التمويني دفع المواطن للانصراف عنه. ولا يعقل شراؤه بسعر أغلى ما دام متوافرا بسعره النظامي».

لكل رخصة استثناء

رُخص الخبز التي مُنحت من دون ضوابط، وتعدد الاستثناءات، وسّعا انتشار تجارة الخبز. الأمر الذي دفع المعنيين الى الغائها من أجل ضبطها. يوضح معاون مدير التجارة الداخلية في دمشق أن الرخص حتى «ألغيت لذوي الشهداء والمعوقين بعد اكتشاف أن أصحابها يبيعونها مقابل مبلغ معين. إضافة إلى سحبهم الكميات المخصصة أكثر من مرة يومياً بالتنسيق مع مشرف الفرن».
في الاطار نفسه يؤكد هزاع أن رخص الخبز بمختلف أنواعها «ساهمت في انتشار تجارة الخبز والازدحام على الأفران، لذلك أُلغيت دون أي استثناءات». كذلك يقول الخطيب إن «دوريات التموين تلغي أي رخصة قديمة وعند التستر عليها يعد البائع والشاري مخالفين».