قبل صلاة الجمعة أمس، يحين موعد الانطلاق من الشام القديمة إلى منطقة الميدان، حيث «مسجد سيدنا الحسن». فمنذ مساء أول من أمس، كان معارضون يهمسون بأن تحركاً ما سيحدث هناك، انطلاقاً من المسجد أو من أمامه. رجال الأمن منتشرون. لا أحد يفتش الداخلين. لكن ما يلفت النظر هو الرجل الواقف بباب المسجد حاملاً صورة الرئيس السوري. من غير المستحسن أن يطرح لبنانيّ عليه أي سؤال. فاللبناني في دمشق اليوم مشبوه إجمالاً. يقول لك سائق التاكسي: «إنتو بتخوّفوا بهالأيام». أما رجل الأمن، فسيطرب لسماع اللهجة اللبنانية، وسيتصرف كمن وجد ضالته بعد سنين من المطاردة.
المسجد فسيح. وقبل نصف ساعة من موعد صلاة الجمعة، يسوده صمت ثقيل. ليس كالذي تجده في دور العبادة الأخرى. صمت يُشعِر الداخل بالرهبة من الآتي. وأبلغ من الصمت، يعلو الوجوم وجوه الحاضرين. لا تقطعه سوى ابتسامات من يتصافحون من حين لآخر. تتماهى مع المصلّين فور «الاندساس» بينهم. تتخذ لنفسك موقعاً في إحدى زوايا قاعة الصلاة المربعة. فالجلوس قريباً من خزائن الأحذية وأحد الأبواب يسمح بالتقاط الحذاء من مكانه سريعاً للخروج فور انتهاء الصلاة، ومشاهدة ما يُتوقَّع حصوله.
يعتلي الشيخ المنبر. يبدأ خطبته المكتوبة. يقول إنه سيفعل ذلك على غير عادة. يتمنّى ألا يُدخل أحد السلاح إلى المساجد «لأنها لله». ثم يوصي سامعيه بالالتفات إلى حرمة الدماء: «فدماؤنا نريقها في وجه عدوّنا. وإسرائيل اليوم تعيش أسعد أيامها بسبب أنهر الدماء التي تسيل في العالم الإسلامي». يوصي «الجميع، وبينهم السيد الرئيس، ومن يحملون السلاح، وكل القوى، بأن نتعاون لما فيه خير هذه البلاد». يشدّد مجدداً على حرمة الدم، قبل أن يستأذن المصلّين لأنه سيجلس قليلاً. في أقل من دقيقة، يرتاح الشيخ الذي تبدو عليه من بَعيد علامات مرور الزمن. يقف لينتقل إلى الحديث عن الحرية: «هي كل ما نريد. لا نريد مالاً. نريد حرية». والحرية برأي إمام المسجد تسمح بتحسين الاقتصاد، وبأن يثري الناس «لكن بعيداًَ عن الرشى والفساد»... وبأن تقوى الصناعة، وبأن يعيش الناس من عرق جبينهم «لا من الصدَقة».
يُنهي الشيخ خطبته باستغفار الله «لي ولكم». صلاة الجمعة قصيرة. وكغيرها من الصلوات، تنتهي بالتسليم. يلتفت المصلّون يميناً، ثم يساراً خاتمين عبادتهم بالقول: «السلام عليكم ورحمة الله». لم يكد الشيخ ينطقها حتى ارتفع من وسط المسجد شعار بأعلى صوت أحد الموجودين: عالجنة... عالجنة... يهب العشرات صارخين وراءه: عالجنة رايحين... شهداء بالملايين. يزحفون نحو خزائن الأحذية. يتدافعون هاتفين: بالروح.. بالدم.. نفديك يا درعا. المسجد يضج بصوتهم. سريعاً ينفصل عنهم من لا يشاركونهم الهتاف.
انقسم مَن في المسجد الى جزءين: واحد يهتف لدرعا، والثاني ينظر بمزيج من الدهشة والاستغراب والخوف. وبينهما، شبان يصورون بهواتفهم الخلوية ما يجري. يستمر الهتاف ويقوى مع مرور الثواني. الهاتفون يريدون الخروج من المسجد سريعاً. يختلطون بمن يريد الهرب. يجري ذلك فيما فئة ثالثة متسمّرة في مكانها تراقب. يضيق الباب الشرقي للمسجد بالخارجين. يتكاثر رجال الأمن، ويطلق أحدهم قنبلة غاز مسيّل للدموع وسط الطريق. ينقسم الخارجون. يتجه جزء منهم إلى الباب الخلفي من جهة الغرب. يوصي الناس بعضهم بعضاً بعدم فرك الأعين لأن ذلك سيزيد من تأثير الغاز. وفي محيط المسجد، يتكتل المتظاهرون متجهين نحو مسجد المنصور في الميدان. ينفضّ عنهم من يريد المشاهدة لا غير، إما لخوف من رجال الأمن، أو لرفضهم التحرك.
لا يزيد عدد المتظاهرين على 500 شخص. يرتفع عديد رجال الأمن. وبعد نحو 15 دقيقة من بدء التحرك، تصل تظاهرة «مناصرة» للرئيس بشار الأسد. عشرات الشبان يحمل بعضهم أعلام سوريا وصور الأسد. يلحقون بالمتظاهرين، هاتفين: الله ... سوريا ... بشار وبس...
يلحق بالمجموعتين رجال الأمن الذين بقي بعضهم أمام المسجد. يحمل كل منهم (باللباس المدني) هراوة. بعض الهراوات خشبية، وبعضها الآخر من النوع الذي تستخدمه قوات مكافحة الشغب. يُسمَع طلق ناري واحد. تزداد الفوضى «المنظمة»: متظاهرون يلحق بهم متظاهرون آخرون، ورجال أمن يراقبون، ومواطنون يتفرّجون. ينظر بعضهم إلى بعض بريبة. يأتي شبان وآباء ليأخذوا أبناءهم وإخوتهم من المكان. يسيطر الخوف على الجميع. «يختفي» المتظاهرون في شوارع دمشق المزروعة منذ الصباح برجال الأمن. يتحدّث بعض الموجودين عن إصابة رجل بطلق ناري، فيما يقول آخرون إن رجال الأمن لاحقوا شخصاً يحمل بندقية. أحد المتفرجين يطلق شتيمة طائفية بحق «التظاهرة المناصرة».
تحت جسر «المتحلّق الجنوبي»، يقف شاب كان داخل المسجد يقول إنه من سكان منطقة الميدان. يجزم بأنه قطع صلاته وخرج من الجامع حيث التقى بأحد رفاق دراسته. يقول: «كنا ندرس معاً في معهد دمّر. استغربتُ وجوده في هذا المسجد لكونه من سكان دوما. وعندما سألته عن السبب قال لي إنهم يعدّون للتحرك اليوم». جميع المتظاهرين «ليسوا من منطقتنا»، يقول الشاب جازماً إنه ليس مع أيّ من «الطرفين». روايات المال والتآمر موجودة في الشارع، رغم أن التظاهرة انتهت بلا «مندسين» أو «مخربين»، وبلا قمع يُذكَر.
بعد ثلاثة أرباع الساعة، بدأ المطر ينهمر. عواصف رعدية تُسقِط حبّات برَد كبيرة، أو ما يسمّيه الشاميون «حَب العزيز». المطر شديد الغزارة. بعض الناس استقبلوه ببهجة الأطفال، متمنين أن يمنع المطر أيّ تحرك في مدينتهم. قال أحدهم مبتسماً، شامتاً بالمتظاهرين: الشام الله حاميها. بعضهم الآخر ناقم على السماء التي أمطرت في «الوقت غير المناسب»، أي بعد أقل من ساعة على خروج المصلين من المساجد. الغيوم الداكنة ضاعفت الإحساس بوجود حظر طوعي للتجوال في يوم العطلة. أمطار نيسان لم تغسل قلق الشام.
تظاهرات وقتلى وجرحى
الهدوء النسبي في العاصمة السورية لم ينعكس على عدد من المناطق الأخرى في البلاد، التي شهدت تظاهرات مناهضة للنظام، سقط فيها عدد من القتلى. وحصلت عمليات القتل بالتحديد في منطقتي درعا وحمص. ونقلت وكالة «فرانس برس» عن المرصد السوري لحقوق الإنسان قوله إن 62 مدنياً على الأقل قتلوا الجمعة في سوريا خلال التظاهرات الاحتجاجية، أغلبهم في محافظة درعا جنوب البلاد. وقال المرصد إنه تأكد أسماء 33 قتيلاً في محافظة درعا، و25 قتيلاً في بلدة الرستن القريبة من حمص. وأضاف إن قتيلين سقطا خلال التظاهرات في مدينة حمص نفسها وواحداً في اللاذقية وآخر في معرة النعمان بالقرب من إدلب، شمال سوريا.
في المقابل، قالت وكالة الأنباء السورية «سانا» إن مجموعة «إرهابية مسلّحة» هاجمت نقطة تفتيش في درعا، فقتلت أربعة جنود من الجيش السوري وخطفت اثنين. كذلك نقلت الوكالة عن مصدر في وزارة الداخلية قوله إن ثلاثة من عناصر الشرطة، بينهم ضابط، قتلوا بالرصاص بيد «مجموعات إرهابية متطرفة» في مدينة حمص بوسط سوريا. كذلك ذكرت وسائل إعلام رسمية أن شرطياً قتل في مدينة اللاذقية. ونقل إعلاميون سوريون عن مصدر عسكري قوله إن تسعة رجال أمن قتلوا في محافظة حمص، فيما «قُتِل 15 مدنياً ومسلّحاً» في درعا، «في اشتباك مع دورية للجيش كانت قد انتهت من تحرير الجنديين المخطوفَين».
ونقلت وكالة «رويترز» عن شهود عيان قولهم إن قوات الأمن أطلقت رصاصاً حياً على آلاف القرويين الذين توافدوا على المدينة المحاصرة. وأضاف «أطلقوا النار على الناس عند البوابة الغربية لدرعا في منطقة اليادودة التي تبعد نحو ثلاثة كيلومترات من وسط المدينة». وقال ثامر الجهماني، وهو محام في درعا لـ«رويترز» إن المشارح المؤقتة في مدينة درعا تحوي 83 جثة على الأقل، منها جثث لنساء وأطفال قتلوا خلال هجوم الجيش المستمر منذ أربعة أيام على المدينة. وأضاف «معظم الأعيرة كانت في الرأس والصدر ما يرجح أن الإطلاق نفّذه قناصة».
وبحسب «رويترز» خرجت عدة احتجاجات في مدينتي حمص وحماه بوسط سوريا وفي بانياس على ساحل البحر المتوسط وفي القامشلي شرق البلاد، وكذلك في حرستا على أطراف دمشق. ونظّمت تظاهرات أيضاً في دوما وداريا وكفرنبل في إدلب ودير الزور والرقة والحسكة.
وحصلت التظاهرات رغم دعوة السلطات السورية المواطنين الى الامتناع عن التظاهر، محذّرة من أنها ستطبّق «القوانين المرعية»، فيما دعت قيادات جماعة الإخوان المسلمين السورية في المنفى السوريين إلى الخروج إلى الشوارع للاحتجاج ودعم درعا. وهذه هي المرة الأولى التي تدعو فيها جماعة الإخوان المسلمين إلى التظاهر مباشرة. وقالت الجماعة إن اتهامات الحكومة بأن الاسلاميين هم الذين يحركون الاضطرابات وأعمال العنف لا أساس لها، وإنها تستهدف إشعال حرب أهلية وتقويض المطالبات بالحريات السياسية.
الميدان: إمام المسجد ينبّه الرئيس والشعب إلى حرمة الدماء
دمشق | القلق في دمشق يستسقي القلق. صباح أمس، بدت المدينة كمن يأبى أن يستيقظ من نومه. شوارعها المغتسلة بالمطر شبه فارغة إلا من رجال الشرطة والأمن. عدد ضئيل من سيارات الأجرة والباصات يجوب الطرق الرئيسية. أما الناس، فمختفون خلف جدران منازلهم. اقتراب موعد صلاة الجمعة لم يحسّن الواقع كثيراً. ليس كسل أيام العطل هو السبب، بل الخوف مما سيجري بعد الصلاة. خلال اليومين السابقين، عاشت العاصمة السورية حياة شبه طبيعية. الناس والأسواق التقطوا أنفاسهم، رغم أن الجميع يشكون الكساد المسيطر منذ منتصف آذار الماضي. أما يوم الجمعة، فأمر آخر. كأنها مدينة مهجورة.