«مناعة» هي الكلمة التي كانت تظهر عند ذكر المملكة العربية السعودية في سياق الحديث عن الثورات العربية والتغيير الحاصل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. المتابعون الأميركيون ،خصوصاً، تكلموا على «مناعة» تتمتع بها المملكة من شأنها أن تجنّبها الانضمام الى نادي الأنظمة المخلوعة أو المرشّحة للخلع. ومع وصول التحركات الى البحرين واليمن والأردن وعُمان، اتجهت الأنظار تلقائياً الى الجارة السعودية، فجاءت «التطمينات» الإميركية إلى أن المملكة قوية: «قطوع» الاحتجاجات المحدودة فيها مرّ بـ«سلام» سياسي وإعلامي، والتدخّل العسكري المباشر في البحرين حظي بشجب خجول وعابر.
ولكن في الأسابيع الأخيرة الماضية، تغيّر المشهد التحليلي. لم تقتصر الأخبار الأميركية الآتية من المملكة على أسعار النفط والغاز الطبيعي، أو على شؤون تأثر البورصة النفطية بالتغيرات السياسية والأحداث الأمنية. فالأميركيون يعلمون أن ما يجري في قصور آل سعود الآن هو ما سيرسم شكل المنطقة ويحدد المراحل الحاسمة التي ستشهدها في المستقبل القريب.
لذا كان لا بد من أن يتحدث عارفون بأحوال المملكة عن بعض مشاكلها، وبعض ما يشوب العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة الأميركية وأقدم حليف عربي لها، من دون أن يغضبوها أو يحرّضوا على نظامها، أو ينتقدوا حكّامها مباشرة.
«العلاقات الأميركية ـــــ السعودية تدهورت بعدما شعرت المملكة بأن الولايات المتحدة لا تستطيع حماية حلفائها في المنطقة»، هذه هي الفكرة الموحدة عند معظم المراقبين الأميركيين. هؤلاء يقولون إنه بعدما فشلت كل المساعي، والضغوط السعودية لمنع إسقاط نظام الرئيس المصري حسني مبارك، وبعدما انتقدت الإدارة الأميركية تدخل السعودية في البحرين (ولو بطريقة عابرة) وبعد التأخر في حسم الوضع في اليمن، أدرك آل سعود أنه لا يمكن الوثوق بإدارة باراك أوباما. «نيويورك تايمز» تحدّثت عن آخر اتصال هاتفي بين الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس أوباما خلال الثورة المصرية وقالت إنه انتهى «بخلاف حاد».
من هنا وصف البعض موقف الرئيس الأميركي بـ«الصعب»، إذ إنه أمام «تحدّ كبير». وهذا التحدي يتمثل في أن يستطيع أوباما وإدارته التوفيق بين دعم الثورات والتغيرات التاريخية الحاصلة والمحافظة على علاقات ممتازة مع «أقدم وأغنى حليف عربي للأميركيين، والأكثر تأثيراً في المنطقة». طبعاً، صعوبة موقف أوباما تتمثل أيضاً بالأثر الكارثي الذي ستسببه أي قطيعة مع النظام السعودي على أسعار النفط، وبالتالي على الاقتصاد الأميركي الذي لم يتعاف بعد... وعلى كل آمال إعادة انتخاب أوباما رئيساً للبلاد. فهل يكون إيفاد مستشار الأمن القومي في الإدارة الأميركية، توماس دونيلون، الى الإمارات العربية المتحدة والمملكة السعودية أول من أمس، محاولة لاستعادة «المسار الطبيعي» للعلاقات إذا كان شبح القطيعة يلوح جدّياً في الأفق؟

قلق ولجوء إلى الأصدقاء القدامى

القلق السعودي وقلّة الثقة بالأداء الأميركي يرجعهما البعض الى ما قبل سقوط الأنظمة السنيّة الحليفة للسعودية في المنطقة، فهما يعودان في نظرهم الى الغضب السعودي من «رمي العراق في الحضن الإيراني» بعد كل الجهود التي بذلتها السعودية لكسب المعركة هناك.
«سبق للسعوديين أن شاهدوا الفيلم الأميركي ذاته» يقول بروس رايدل في «ناشيونال إنترست»، ويذكّر أنه «عام 1978 شهدت المملكة كيف تخلّى جيمي كارتر عن شاه إيران، وكيف حلّت ثورة إسلامية شيعية محله». لذا، قرّرت المملكة أن «تتجاهل» الولايات المتحدة وتوقف التواصل معها، وتوصي سائر الممالك العربية بفعل الأمر نفسه، تضيف «ناشيونال إنترست». وهذا «التجاهل» ترجمه البعض بقرار تدخّل المملكة عسكرياً في البحرين، وهو ما عُدّ «رسالة من النظام السعودي الى العراق وإيران بعدم التدخل في شؤون الجزيرة، ولأوباما بأن لا يدعم ثورات الباحة الخلفية للمملكة».
قلق آخر «يؤرّق الملك السعودي»، وهو ما تحدّث عنه روبرت دريفوس في مجلة «ذي نايشن»: إنه صعود الدور المصري ـــــ الذي حاولت السعودية كبحه طوال الفترة السابقة ـــــ والاتجاه إلى تكوين قوة إقليمية جديدة وفاعلة، قد لا تتفق مع كل السياسات والخطط السعودية للمنطقة.
بعض المراقبين أشاروا إلى لجوء السعودية ل«أصدقائها القدامى»، مثل باكستان والصين، اللتين تقدمان دعماً بالسلاح والعسكر والاستخبارات والمال، بدلاً من الولايات المتحدة في حال حصول أزمة داخلية. ويضع البعض زيارة بندر بن سلطان لإسلام أباد الشهر الماضي في إطار اتفاق على الاستعانة بقوات باكستانية خاصة لردع أي تحركات داخلية في المملكة ومواجهتها.
بعض الاستراتيجيين اقترحوا إمكان تحالف سعودي ـــــ إسرائيلي لتأليف جبهة قوية في المنطقة بغية «قطع رأس الأفعى» (إيران)، ولكي تحمي المملكة وجودها ومصالحها، بعدما باتت تشكّ بقدرة الولايات المتحدة على ذلك.
مارتن إنديك يذكّر في الـ«واشنطن بوست» بأنه في فترة الأزمات لطالما اعتمد ملوك السعودية على الرؤساء الأميركيين للحفاظ على أمنهم الخارجي. «لكن الملك عبد الله، في الأزمة الحالية، يرى في أوباما تهديداً لأمن المملكة الداخلي». إنديك يحذّر الإدراة الأميركية من تداعيات ترك السعودية تنفّذ سياستها في المنطقة كما تريد، ما «سيجرّ الى صراع سني ـــــ شيعي أكيد، وبالتالي صراع عربي ـــــ إيراني فصراع عربي ـــــ إسرائيلي»، وهو ما سينهي معادلة السلام الأميركية في المنطقة. لذلك كلّه يستعجل إنديك أوباما لـ«إبرام اتفاق جديد مع الملك السعودي، وإقناعه بأن الحل الوحيد لحماية مملكته ومصالحه هو انتشار أنظمة ملكية دستورية في السعودية وفي الدول المحيطة بها». طبعاً، مع تقديم تطمينات أميركية للملك إلى أن حليفته الغربية القديمة لن تعقد أبداً أي اتفاق مع أعدائه الإيرانيين على حسابه.

انهيار المعادلة الأميركية ـ السعودية؟

ولكن إلى أي مدى ستنجح الإدارة الأميركية بالاحتفال بالحريات، وتثبيت حقوق الإنسان، ودعم الديموقراطيات في الشرق الاوسط المتغيّر، وغضّ النظر عن ارتكابات النظام السعودي المخالفة لكل تلك المبادئ؟ هكذا يتساءل معظم المتابعين الأميركيين لشؤون المنطقة، لكن الردّ جاء مدوياً من بعض المحللين الذين صعّدوا لهجة انتقاداتهم للمملكة وللعلاقات السعودية ـــــ الأميركية. هؤلاء أجابوا بأن للولايات المتحدة مصالح تتقدم أحياناً على مبادئها في الأولويات، وخصوصاً في ما يتعلق بالمملكة السعودية.
روبرت شير كتب في مجلة «ذي نايشن» الأسبوعية أن «الذهب الأسود» هو ما يجعل الدول الأوروبية والولايات المتحدة «لا تبالي فعلاً بحقوق الإنسان التي تستخدمها ذريعة لتدخلاتها العسكرية في المنطقة»، ولو كانت تهتمّ بالحريات والمساواة فلماذا لا تطالب بذلك للمواطنين الشيعة الذين يعيشون في المنطقة النفطية في السعودية، والذين يحرمون الحقوق التي يتمتّع بها سائر المواطنين؟ لماذا لا ينسحب حق تقرير الشعوب لمصيرها على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة؟ يسأل شير في مقاله. ويضيف أن التضليل الحاصل هو في التركيز على أن إيران الشيعية هي مركز الإرهاب، «بينما الكل يعرف أن السعودية هي الدولة التي ساهمت بصعود تنظيم القاعدة، وأن من بين منفّذي هجمات 11 أيلول التسعة عشر هناك خمسة عشر من أصل سعودي وإماراتي». ويختم شير مستغرباً كيف أن «قمع السعودية لشعوبها ولشعب البحرين حُسبا ضمن الحدود المعقولة لدى الولايات المتحدة والحكومات الغربية».
بعض المراقبين يؤكدون استحالة استمرار المعادلة الأميركية المعتمدة تجاه السعودية منذ عشرات السنين كما هي. ستيفين ليفين، في مجلة «فورين بوليسي»، يشير الى أنه «لم يعد بالإمكان الاعتماد على بقاء الأمراء السعوديين في مناصبهم أو في سدة الحكم لفترة طويلة كما في السابق».
صحيفة «بوسطن غلوب» لفتت الى أن معادلة النفط السعودي مقابل الحماية الاميركية التي ترسخت منذ 1945 «تتجه الى الانهيار»، لأن السعودية لم تعد تضمن الحماية الاميركية لها ولمصالحها. «القلق ذاته يخالج إسرائيل»، تنبّه الصحيفة.
إضافة الى كل الأوضاع الإقليمية والدولية وتوتر العلاقات، يتطرق البعض الى ما وصفوه بـ«هشاشة» الحكم ضمن العائلة المالكة السعودية التي تعاني مشكلة تقدّم أولياء العهد في السن، وأخرى متصلة بالتحالفات المتشعبة وعدم الاستقرار مع رجال الدين الوهابيين في المملكة، دون إغفال نسبة البطالة المرتفعة بين الشباب السعودي، التي ستخلق مشاكل اجتماعية عديدة في المستقبل القريب.
ولكن، في خضمّ القلق المتبادل بين السياسيين ورجال الاعمال والملوك والرؤساء، يبرز رأي «مهدّئ» يقول إنه في كل أزمة عربية أو تغيير في الشرق الأوسط تكثر التكهنات حول زعزعة الحكم في المملكة، من دون الانتباه الى واقع كون السعودية هي إحدى أكثر الدول تأثيراً في أمن المنطقة واستقرارها كما في الميزان الاقتصادي العالمي... ذلك هو سبب «المناعة»، وهنا مصدر «القلق».

بطء الإصلاح

لم يتردّد بعض المحللين الأميركيين في التذكير بتاريخ العلاقات مع المملكة، وتحديداً بما كانت عليه السعودية قبل التعرّف إلى حليفتها الأميركية، كالإشارة، مثلاً، الى أنه لم يكن في الرياض طرقات معبّدة ولا مبان ولا بنى تحتية الى حين تنفيذ الشركات الأميركية المشاريع الحيوية تلك. ويروي آخرون أنه عندما وصل الهاتف الى السعودية خاف منه المتدينون وطالبوا بمنعه. لكن الملك السعودي (الملك عبد العزيز) جمع رجال الدين في قصره، وعندما رنّ الهاتف في الغرفة، وضع مكبّر الصوت وخرج منه صوت الأذان، فارتاح الشيوخ وسمح بالهواتف. كذلك يشير البعض الى البطء المعروف عن الملوك السعوديين في اتخاذ القرارات الإصلاحية، ويذكرون في عام 1945 طلب الأميركيون من الملك السعودي إلغاء العبودية في بلاده، فاستجابت المملكة بعد 18 عاماً.