تونس| تحت إمرة مدير الاستخبارات الأشهر في الوطن العربي على الإطلاق، عبد السلام الزّادمه، عمل وزير الخارجية المنشقّ عن النظام الليبي، موسى كوسا. لقّنه الأول أسلوب العمل يوم قرّبه منه مانحاً إياه سلطات واسعة ومُطلعاً إياه على ملفات لا يمكن أحداً أن يطلع عليها مهما كانت درجة قربه من النظام أو ولائه للعقيد.
وبعد مقتل الزّادمه بأربع عشرة طلقة، في حادثة إطلاق النار الشهيرة على موكب القذافي سنة 1989، التي أصيب فيها العقيد بطلقة واحدة، كانت الفرصة سانحة لتلميذه النجيب ومساعده القويّ والوفيّ موسى كوسا، أن يرتقي الى منصب مدير الاستخبارات، ليمكث فيه أكثر من ثماني عشرة سنة، عاشت ليبيا خلالها مراحل حرجة في علاقاتها بالغرب، وتوتّرات شديدة مع بعض الجيران العرب والأفارقة. كانت بصمات كوسا ظاهرة للعيان فيها، ونشاطات أذرع جهازه الرهيب تترك بصماتها في عديد الحوادث التي طُويت غالبيّة ملفّاتها، وانتهت أبحاثها بفضل ما يتمتع به الرجل من حذر عجيب وقدرة على إخفاء بصمات الجهاز من مسرح الحادثة، مهما كانت شدة الشكوك الموجّهة إليه ومهما كان حجم الضغوط.
كوسا، إثر الاتفاقات التي تمكّن بعض رجال النظام المقبولين دولياً وأميركياً من إبرامها مع الغرب من أجل تجاوز معضلة لوكربي، واختراق حالة الحصار الخانق الذي عاشته ليبيا، كان ينبغي إبعاده عن جهاز الأمن، وإعطاؤه منصباً يخوّله التعامل مع هذه الأنظمة، لكن بقفازات دبلوماسية هذه المرة بعيداً عن أساليب الضرب تحت الحزام التي ألفها طويلاً.
تولّى منذ نهاية عام 2009 حقيبة وزارة الخارجية، في نظام يعتمد عدة رموز في المنصب الواحد، فإضافة إليه، كان يشغل العلاقات الخارجية أيضاً كل من علي عبد السلام التريكي، مكلّفاً بالملف الأفريقي ومرشّح ليبيا الرسمي لرئاسة مجلس الأمن، وعبد الرحمن شلقم، الذي التحق بالثورة منذ أيامها الأولى، مكلّفاً بتمثيل ليبيا في المحافل الدولية ولدى الأمم المتحدة، إضافة الى أحمد قذّاف الدمّ، المرافق الأقرب لابن عمّه القذافي، الماسك بملف العلاقات العربية.
ولئن استطاع كوسا أن يصمد أكثر من شهر ونصف الشهر، وظهر في القنوات العربية والدولية الفضائية والأرضية، وهو يقرأ بيانات ليبيا عن الأحداث والهجمات الأطلسية، فقد انهار أخيراً، في رحلته الى جزيرة جربة التونسية التي قصدها بصحبة عبد العاطي العبيدي، لمقابلة وفد فرنسي وآخر بريطاني للتباحث في السبل الكفيلة بإخراج ليبيا من المأزق الذي وقعت فيه، إذ بعد يوم وليلة من المباحثات، التي لم تُعلن فحواها ولا نتائجها، ولا حتى أسماء أعضاء الوفود التي شاركت فيها، قفل العبيدي راجعاً الى طرابلس، وغاب موسى كوسا ليظهر في بريطانيا.
ورغم أن الرجل لم يعلن، حتى الآن، مباشرةً انسلاخه، ورغم وجود تسريبات خفية تقول بفرضية تخديره واختطافه من جربة وترهيبه لإعلان إدانته لنظام القذافي، أصرّت الدوائر الغربية على أنه اختار الفرار، رغم عدم تلقّيه ضمانات من الغرب والبريطانيين، وخصوصاً بعدم محاسبته على ما اقترف من عمليات أثناء تولّيه رئاسة جهاز الاستخبارات، أو خلال إمساكه بالشؤون الخارجية.
لا شك في أن فرار وزير الخارجية الليبي ليس بالأمر الهيّن على النظام الليبي، وهو صفعة قوية وضربة في مقتل، يصعب على دائرة الحكم في طرابلس أن تتحمّلها أو تخرج منها بأخفّ الأضرار، فهو الصندوق الأسود للنظام، وهو الكاتب الأمين لكلّ أسراره، وهو العالم بمفاصل قوته ومكامن ضعفه. خروجه بتلك الطريقة المريبة، سواء بمحض إرادته أو غصباً عنه، وضع نظام القذافي أمام تحدّ رهيب يتمثّل في إعادة صياغة كل الأجهزة الأمنية والعسكرية، وتغيير كل أماكن التمويه والاختباء، وتغيير كل القيادات الموالية لكوسا، وإبعاد كلّ رجاله ـــــ وما أكثرهم! ـــــ عن المواقع الحساسة.
ويدفع هذا الانشقاق النظام الى البحث في كل الطرق التي تعيد تشكيل المشهد الأمني والعسكري والقيادي، بطريقة غير ما عهدته خلال ثلاثين سنة مضت، وهذه مهمّة صعبة إن لم نقل مستحيلة، على نظام محاصر من الثوار شرقاً وغرباً، ومن قوات حلف شمالي الأطلسي بحراً وجوّاً، ومن نظام بدأ يفقد الثقة في أقرب رجاله وأخلصهم، وهو حتماً قد قطع الآن شوطاً كبيراً في التفكّك والتآكل من الداخل، بعدما ضربت عدوى الانسلاخ الجسم الرئيسي والدائرة القريبة المغلقة فيه.