حتى وهو يقترب من خط النهاية في سباق حكمه الطويل، يصرّ الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، على إثبات أنه لم يكن حاكماً نزيهاً. يرسل قناصة تابعين للحرس الجمهوري والخاص، لحصد أرواح نحو 52 شاباً، ثم يترك الكلام لوزير داخليته ليؤكد أن قوات الأمن لم تكن موجودة في المكان وقت حصول الحادثة، التي لخصها بمجرد اشتباك وقع بين سكان الحي والمعتصمين. ولا يتوقف صالح عند هذا الحد ليظهر ثانية كي يعلن، بكرم بالغ، يوماً وطنياً للحداد من أجل الذين سقطوا، والذين منحهم لقب «شهداء الديموقراطية».
هو اشتباك إذاً بين معتصمين وسكّان حي أرادوا التعبير عن عدم رضاهم عن الفوضى، التي حلّت بالمكان الذي يقيمون فيه، ولم يجدوا وسيلة تخلصهم من تلك الفوضى غير إنهاء حياة 52 شاباً بدم بارد. أمّا الرئيس صالح فلا شأن له بالأمر! لقد أشار عليه عقله الباطن باستحضار لعبته المفضلة التي اتخذها آلية حكم ودليل قيادة شعب بأكمله طوال 33 عاماً. لعبة تتلخص قواعدها في ضرب هذا الطرف بذاك وإشعالها بينهما، فيما يبقى هو مراقباً المشهد من بعيد. لا بد له من وجود أطراف متصارعة كي يستطيع هو البقاء على قيد الحكم، وما يطلق عليه مسمّى «إدارة الحكم بالأزمات». الاكتفاء بمنح شرارة لخلاف ما بين طرفين سياسيين أو حتى في حزب واحد. دعم الرجل الثاني في ذلك الحزب وضمّه إلى مجلسه الخاص يكفي لتقلص مسافة الحوار والتفاهم بين تلك الأطراف. لا ننسى هنا المال السياسي وقدرته على خلق حروب يومية لا نهاية لها. التركيز على التعامل مع العناصر الرديئة في المجتمع القبلي على وجه الخصوص وتغذيتهم بالمال وإعطاؤهم النفوذ بهدف إحداث خلخلة في توازن القوى بما يمثله من ضرب للتوافق القبلي.
وبناءً على ذلك، لا مجال للاستغراب عندما يعمد إلى هذه العناصر القبلية الرديئة، ودفعها إلى واجهة العمل السياسي لتمثيل قبائلها، رغم عدم وجود سلطة حقيقية لها داخل البنية الحقيقية لتلك القبائل، التي لا تعترف عادة بزعامة الأفراد الخارجين عن أعراف القبيلة. وهذا ما ساعد على تحول الولاء القبلي، في أجزاء غير بسيطة من الجغرافيا القبلية، من فكرة الولاء العصبوي إلى منهج الولاء للمادة التي يستحوذ عليها هذا الزعيم أو ذاك. لذلك ظهرت على السطح، في عهد الرئيس صالح واجهات لزعماء قبائل بدوا كرجال أعمال ومستثمرين وأعضاء في اللجنة العامة لحزب المؤتمر الحاكم. صورة لا يمكن رؤيتهم فيها على أنهم مشايخ أصليون، بقدر ما يمكن اعتبارهم أعضاءً في مافيا فساد كبيرة، لكن بواجهة قبلية.
وهنا قد نجد في القبيلة اليمنية مثالاً بارزاً كورقة استطاع الرئيس صالح اللعب بأوراقها، وتحريكها كيفما شاء، فيما لا يجد صعوبة تذكر في اختراع أسباب الصراع بين القبائل هنا وهناك، ليقف هو على مبعدة منها، ويكون تدخّله من طريق طرف ثالث مهمته دعم هذه القبيلة من جهة، ومدّ القبيلة الأخرى بما يلزمها للمواجهة من جهة أخرى. هي وصفة سهلة وجاهزة للبقاء في الحكم أطول فترة ممكنة، ولا تعنيه كلفة كل هذا الأمر من دماء وبشر ما دام لن يخسر شيئاً من جيبه. ولا يكتفي بهذا فقط، بل يذهب إلى إظهار نفسه كحكيم يقود جماعة من الغوغاء، لا تجيد غير حمل السلاح والتناحر في ما بينها. تصدير صورة شعبه على هيئة قتلة بالغريزة والعصبية، مسألة لا تهمه إطلاقاً ما دام سيأخذ عن جدارة لقب «الحاكم على رؤوس الثعابين»، وما دام هذا الوصف سيعمل على توفير تغطية جيدة تداري ضعف قدراته في تطبيق الحكم الرشيد والإدارة الحديثة. ولن يكون بالتالي مطالباً بإحداث أي عمليات إصلاحية وسط هذا المناخ القبلي الممانع للتغيير. رغم أن هذا الأمر يخالف بشدة حقائق عدة تقول إن القبيلة كانت على الدوام في الصفوف الأمامية الراغبة في التغيير والحياة المدنية، عندما وقفت في مقدمة المدافعين عن ثورة أيلول 1962 في الشمال اليمني والثورة ضد حكم الإمامة. وكانت في طليعة المدافعين عن صنعاء خلال فترة حصار السبعين يوماً وكذلك في الحروب الارتدادية، التي كان الملكيون يشنونها لاستعادة حكمهم الضائع في عام 1967. وكي لا نذهب بعيداً في الماضي، لنا في «ساحة التغيير» بصنعاء اليوم، التي انطلقت منها الشرارة الأولى لـ«ثورة الشباب اليمنية»، مثالاً بارزاً على حقيقة النزعة المدنية المتأصلة في داخل الأفراد القادمين إلى الساحة من مختلف القبائل اليمنية، حيث يكاد الصوت الجامع للدافع الذي أتى بهم إلى هناك هو قولهم إنهم تعبوا من حمل السلاح وحالة الاستنفار الدائمة، التي يعيشون فيها يترصد بعضهم بعضاً جراء أسباب لا شأن لهم فيها غالباً، وتأتيهم مستوردة من رأس الحاكم. وليس أدلّ على صدق ما يقولون غير تلك الوقائع المثبتة بوقوفهم بأيدٍ خالية من أي قطعة سلاح أمام الهجوم المتكرر، الذي كان يشنه عليهم في «ساحة التغيير» رجال أمن ومسلحون بزيّ مدني و«بلطجية» منذ بداية اعتصامهم، وقد سقط منهم بالفعل العديد من القتلى، لكن أبداً لم يلجأوا إلى السلاح للدفاع عن أنفسهم.
وقد يبدو في موقفهم الواضح هذا رفضهم للطريقة، التي يدير بها الرئيس صالح بلادهم وحياتهم أكثر مما هي رغبة في ترك القبيلة لكونها قبيلة فقط.
يقودنا هذا إلى هدف أكبر من وراء التغيير الذي جاءت القبيلة لتحقيقه عبر قدومها إلى الساحة، وهو استعادة دور الدولة المدنية الغائبة أو المنتهكة القادرة على حماية مواطنيها. قد يكون هذا الأمر مستغرباً، لكنها الحقيقة فعلاً. وقد عاشتها القبائل عملياً ولمستها خلال فترة لم تتجاوز السنوات الأربع التي كانت فترة حكم الرئيس إبراهيم الحمدي (1974 ــ 1977). وجاء فعل اغتياله متماشياً مع رغبة تقيم في نفوس الجيران في المملكة السعودية، لإنهاء هذا التقدم الذي تفعله القبيلة اليمنية في طريق الحياة المدنية، بما يحمله من استغناء عن سطوتها وتسلطها على القوى التي تشكل طوقاً عبر التماس الحدودي معها.
ولا يكون مستغرباً أن مجيء علي عبد الله صالح إلى الحكم كان ضمن هذا المشروع، وخصوصاً عندما نلمس أنه قد فعل كل ما في وسعه لتفتيت هذه الدولة وتحويلها إلى كيان هش، وغير قادر على توفير عنصر المواطنة الآمنة والمتساوية لأبنائه، وتمكين الفرد من حصوله على حقه من طريق الاحتكام إلى القانون. منهج تمييع الدولة هذا قد عمل بالضرورة على دفع المواطن وإعادته إلى حضن القبيلة القادرة على استعادة حقه الضائع. توجّه جرت تغذيته عبر العملية الممنهجة لإفساد القضاء من طريق تفشّي الرشوة وتأخير بتّ القضايا المنظورة. كل هذا يدفع إلى اللجوء إلى التحكيم القبلي، أي اللجوء إلى شيخ القبيلة وطرح المشكلة بين يديه لإيجاد حل سريع لها. وقد لا يكون من الغريب في شيء أن نعرف أن نسبة 30 في المئة من السكان فقط هم من يلجأون إلى المؤسسات القضائية لحل مشاكلهم، فيما تفضل النسبة الباقية اللجوء إلى رؤساء القبائل.
وهناك حوادث كثيرة على مدار سنوات حكم الرئيس صالح تؤكد طريقته هذه في تشتيت قوى القبيلة وإشغال بعضها ببعض. حالة العداء صنّعها في معمله الشخصي وأثارها بين قبائل حاشد وبكيل، الشيخ محمد ناجي الشائف من جهة والشيخ عبد الله بن حسين الأحمر من جهة أخرى. إشعال نار الفتنة بينهما من أجل السباق على منصب شيخ مشائخ اليمن. مدّهما بالمال والنفوذ لكسب ولاءات متعددة في بطون القبائل الأخرى. غضّ البصر عن المال السعودي المتدفق إلى جيوبهما لحصد مزيد من التمكين والقدرة على إدارة الصراع بين القبائل على نحو جيد ومُسيطَر عليه. يكفي أن نعرف أن حاكماً يدرك أن مجموعة من مواطني دولته يتسلّمون، علناً، مبالغ معروفة من دولة أخرى كي يكسبوا ولاءات في داخل الدولة التي من المفترض أنهم ينتمون إليها، كي ندرك أن غض الطرف هذا لا يمكن أن يتماشى مع ما يفترض أن يكون عليه رئيس دولة يحترم المهمات المنصوص عليها في الدستور وتحدد واجباته. لعل من أبسطها حماية دولته من أي تدخل خارجي بأي صورة كان هذا التدخل.
لكن علي صالح لم يكن يهتم لكل هذا، بقدر اهتمامه باختراع وسائل مبتكرة لها أن تعمل على إطالة فترة حكمه لليمن بأي طريقة كانت. هو الحكم الذي يبدو الآن أن نزول الستارة على فصله الأخير قد صار وشيكاً.



انسحاب من شبوة

بدأت قوات الأمن اليمنية أمس بالانسحاب من عدد من مديريات محافظة شبوة، في جنوب اليمن، فيما تألفت لجان شعبية لضمان الأمن في بعض المديريات، وانتشرت قوات من الجيش بمدينة عتق عاصمة المحافظة.
وقالت مصادر محلية لموقع «التغيير» إن قبائل مسلحة استولت على النقطة الأمنية الرابعة بمديرية الصعيد، وإن مجاميع قبلية تحاصر النقطة الأمنية بمنطقة حبان.
وأضافت هذه المصادر أن قبائل استولت على عدد من الأطقم والنقاط العسكرية، مشيرة في الوقت ذاته إلى وجود وساطات يقوم بها زعماء قبليون بين القبائل والسلطة لتهدئة الموقف وتأليف لجان شعبية للسيطرة على الوضع الأمني في مديريات المحافظة.