عبد المجيد الزنداني شخصية مركّبة وإشكالية، تتحرّك بين حدود الدين والسياسة، يحكم مسارها العام الخط الفكري لحركة الإخوان المسلمين المصريين، الذي يمتاز ببراغماتية ملتوية ومتعرجة الاتجاهات، تتحصّن بالدين حين تريد أن تذهب الى هدف سياسي، وتتّخذ منه غطاءً وغلافاً لخطابها ونزوعها إلى السلطة. لكنها لا تنسى بحر المجتمع الذي تسبح فيه على هواها، لذا لم يقف الزنداني عند حدود علاقته مع الحاكم، بل ذهب للغوص في قضايا معقّدة وضعته في كثير من الأحيان في مصاف المشعوذ، ومن ذلك إعلانه اكتشاف علاج لمرض الإيدز.
تربّى في مدرسة الإخوان المسلمين في مصر حين كان طالباً في قسم الصيدلة، وسرعان ما اكتشف هذا الشاب اليمني المولود في محافظة إب في شمال اليمن سنة 1942، أن هواه ليس في تبديد الوقت داخل المختبرات لتركيب وصفات طبية، بل في الوصفة الجاهزة وهي أنّ «الإسلام هو الحلّ». لذا، ترك مقاعد الجامعة ليعود الى بلاده التي كانت قد تخلصت في سنة 1962 من حكم الإمامة وانتقلت الى الجمهورية، لكنها دخلت في حرب أهلية بين أنصار الإمامة بدعم من السعودية وأنصار الجمهورية بدعم من مصر عبد الناصر. ورغم أن الزنداني يقول في أحاديثه إنه قرر الرجوع إلى اليمن ليلتحق بصفوف المدافعين عن الثورة، لا يكاد يعثر له على دور ملموس، بل بالعكس، انتقل بعدما استتبّ الوضع للجمهوريين ليعيش في السعودية، وهناك انتقل إلى مرحلة جديدة تطعّمت فيها براغماتية الإخوان بسلفية الوهابية، وطغت الأخيرة عليه حتى عودته إلى اليمن في نهاية الثمانينيات.
لم يبرز الزنداني كثيراً خلال وجوده في السعودية بسبب الوضع المعقّد للمؤسسة الوهابية وعلاقتها بآل سعود، الذين أدّوا دوراً تاريخياً في ضبط إيقاعها وفق إدارتهم لشؤون الوضع الداخلي، وظلّوا يتحكّمون بها ويوجّهونها وفق حركة الريح السياسية التي يسيّرون بها مراكبهم، ولذا لم يتركوا لها المجال لتستقلّ عنهم، بل لتبقى داخل البلاط.
ومن الطبيعي لشخص مثل الزنداني اليمني أولاً، والمبتدئ في حقل الدعوة ثانياً، أن يبقى في الظل حتى تأتيه المصادفة بفرصة تنقله إلى عالم الأضواء، وكان ذلك مع الحرب الأفغانية، ونشوء ظاهرة المجاهدين العرب في نهاية السبعينيات التي صنعتها الاستخبارات الأميركية تحت إدارة جورج بوش الأب، بتمويل سعودي، وتحوّل اليمن الى معسكر للتدريب بالتفاهم مع الرئيس علي عبد الله صالح، الذي كان قد وصل الى الحكم حديثاً.
كان للزنداني دور أساسي في تكوين حركة الأفغان العرب، فهو الذي تولّى شؤون المعسكرات في اليمن للاستقبال والتدريب والتعبئة الفكرية والإرسال الى أفغانستان، وعلى الطرف الآخر في بيشاور كان أسامة بن لادن يستقبل المتطوعين القادمين بجوازات سفر يمنية شمالية، وكانت الغالبية العظمى من اليمنيين، بالإضافة الى مصريين وليبيين وجزائريين وجنسيات أخرى. وأصبح الزنداني وبن لادن قطبي العملية، حين انتقل الزنداني الى الميدان، لكنّه لم يستقرّ هناك، وظلّ يتنقل بين أفغانستان والسعودية والمعسكرات اليمنية. وقد اكتسب صفة الأب الروحي للأفغان العرب، فيما كان بن لادن رجل الميدان. ولعب القطبان على العصبية اليمنية في الجهاد الأفغاني، بالتنافس مع المصريين الذين كانوا أكثر عدداً، علماً بأن مجيء اليمنيين في المرتبة الثانية لم يقلّل من قيمة حضورهم في الصدارة بفضل الشجاعة التي كانوا يتحلّون بها في ساحات القتال. وأثمر الأمر لاحقاً ولادة جيش كبير مدرب ومنظّم، وظهر الأمر واضحاً حين انتهت الحرب الأفغانية وعاد اليمنيون الى بلادهم في نهاية الثمانينيات. لكنّ تطوراً مهمّاً حصل بعودة الزنداني الى حضن السلفية، بينما كان بن لادن يريد تطبيق نموذج الجهاد الأفغاني في جنوب اليمن، وهو ما حال دون تحقيقه قيام الوحدة بين الشمال والجنوب في أيار سنة 1990، وهنا انفرط عقد التحالف نهائياً بين بن لادن والزنداني، الذي صار يشتغل لحسابه الخاص على محورين. سياسياً على جبهة الإخوان المسلمين، ودعوياً على جبهة السلفية إلى جانب الشيخ مقبل الوادعي، الذي كان قريباً من النظامين اليمني والسعودي.
وجاءت قضية دستور دولة الوحدة لتظهر الخلاف بين بن لادن والزنداني، فقد كان بن لادن مع تجييش رجال الدين في اتجاه قيام دولة إسلامية في اليمن، بينما وقف الزنداني والوادعي في اتجاه النص في الدستور على أن «الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع».
في هذه الفترة، حين عملية وضع اللمسات الأخيرة على مشروع إعلان الوحدة، التقى الزنداني، ومن خلفه الإخوان المسلمون، مع الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، شيخ أكبر قبائل اليمن (حاشد)، والرجل القريب جداً من الرئيس علي عبد الله صالح ومفتاحه في العلاقات مع السعودية. وكانت ثمرة اللقاء تأسيس حزب «التجمع اليمني للإصلاح»، كناية عن زواج الإخوان بالقبائل. وقام هذا الحزب على تبادل مصالح، فالإخوان الذين كانوا بلا رصيد جماهيري باتوا يحسّون بامتداد داخل الوسط القبلي، والشيخ الأحمر الذي لم تكن له صفة حزبية بات يشعر بأنه من خلال مركزه القبلي يمسك بورقة الإسلاميين في اليمن، الإخوان والأفغان على أساس أن الزنداني ظل في موقع الأب الروحي لهؤلاء. لكن المستفيد الأكبر من المولود الجديد هو الرئيس صالح الذي بات يمسك بورقتي القبائل والإسلاميين، وبما أنه على وفاق تام مع الأحمر، فقد بقي على الرئيس أن يكسب الزنداني الى صفّه، وهو يستعدّ ليكون الرقم الأول في معادلة الوحدة. وهكذا كان فعلاً، حيث تكوّن حلف ثلاثي قوامه صالح والأحمر والزنداني، خاض من خندق واحد كل الحروب منذ سنة 1990 حتى الآن.
كانت الفترة الأولى للوحدة تتّسم باضطراب سياسي كبير، يعود لجملة من الأسباب: أولها أن الوحدة بالنسبة إلى الرئيس صالح والشيخ الأحمر والزنداني ما هي سوى ضمّ للجنوب، وبالتالي رفض معاملة الجنوبيين على أنهم شركاء، بل طرف فرضت الضرورة التعاطي معه لفترة انتقالية، ولذا يجب التخلص منه بسرعة حتى يمكن بناء النموذج الذي يوافق رؤية الثلاثي صالح ـــــ الأحمر ـــــ الزنداني. وعمل الثلاثة كل من موقعه على التعجيل بإنهاء اتفاقية الوحدة. صالح استمرّ في ادارة الدولة الجديدة بأساليب دولة الشمال، ورفض تطبيق الاتفاقات الوحدوية في ما يخص دمج الجيشين والعمل بالقوانين الإدارية التي تعطي صلاحيات واسعة لرئيس الوزراء، وخصوصاً لجهة التعامل مع المال العام. وأصر صالح على بقاء جيش الشمال وتهميش جيش الجنوب، وواصل تسيير شؤون الدولة بالهاتف.
أما الأحمر، فقد بدأ بشنّ حرب نفسية على الجنوبيين، من منطلق أن الجنوب فرع والشمال أصل، والوحدة هي «عودة الفرع إلى الأصل».
وفي هذا الوقت لعب الزنداني على وتر الدين، ورأى أنّ الجنوبيين كفار لأنهم يعتنقون الفكر الماركسي، وعليه تجب إعادة أسلمتهم، ووصل الى حد عدّ كل الزيجات التي حصلت خلال فترة حكم الاشتراكيين في الجنوب منذ سنة 1978 باطلة، لأنها حصلت في ظل دولة شيوعية.
قاد هذا الجو الى حرب سنة 1994 التي شنّها الشمال على الجنوب، وانتهت بانتصار الطرف الشمالي وخروج الجنوبيين من معادلة الوحدة. وشارك الأحمر والزنداني بقوة في تلك الحرب، وكان للأخير دور بارز لأنه قاد الفصائل الجهادية من الأفغان العرب، التي مثّلت طليعة المواجهات.
كافأه الرئيس صالح بمنحه قطعة أرض ليبني الزنداني عليها ما عرف بجامعة الإيمان، التي نقلته الى مصاف فاعل الخير، لكنها فتحت الأعين على دوره السياسي الجديد، الذي وضعه في المرمى الأميركي بوصفه أحد بارونات الإرهاب، لا بسبب علاقته السابقة مع بن لادن، بل لما كان للجامعة من دور على صعيد تأهيل أجيال جديدة بفكر سلفي متعصب ومعاد للغرب، وانكشف هذا الأمر جلياً بعد أحداث 11 أيلول، حين ألقى الأميركيون القبض على «قاعدي» أميركي في أفغانستان، تبيّن أنه تأهل فكرياً في جامعة الإيمان، وهنا شرع الأميركيون بفتح ملف الزنداني.
قفز الزنداني من مركب الرئيس صالح حين أدرك أنه بدأ يغرق، ووجد نفسه يقف على أرض يابسة مع التجمع اليمني للإصلاح (إسلامي) وقبيلة «حاشد»، وحبك مع اللواء علي محسن الأحمر يوم أول من أمس خيوط مسرحية انتقال جزء من المؤسسة العسكرية الى صفوف المعتصمين، الذين يرفعون شعار «الشعب يريد محاكمة السفاح».