البحث عن أب. هذا ما تلعب عليه القوى القديمة في مصر. الجيش احتل موقع الأبوة الشاغر، والشعب اليتيم استقبل الأب الحنون بترحاب واشتياق، وقبلات للدبابات وحاملات الجنود، وتحول أصحاب القبعات الحمراء (من الشرطة العسكرية) إلى نجوم، تلتقط معهم العائلات صوراً تذكارية. مشاهد عاطفية تلقي بظلالها على مشهد سياسي يعاد تركيبه كل لحظة منذ رحيل مبارك إلى شرم الشيخ، واختفاء حاشيته في جحورهم المكيفة.
الأبوة الجديدة مقلقة للجميع، تداعب خيالات «الإخوان المسلمين» بغريزتهم القديمة في التقاط هرمونات السلطة، واللعب بجوارها، أو في هوامشها، أو الطمع في اقتراب أكثر، كما حدث بعد أيام من انتصار الضباط الأحرار في تموز ١٩٥٢، والرغبة في مشاركة عبد الناصر السلطة، ثم الخلاف على حصة الشراكة، والطرد من جنة السلطة، إلى الحظر والمنع والنبذ السياسي والاجتماعي.
مع مبارك الشراكة مختلفة، هو البعيد عن صورة «البطل الإيديولوجي المحرر» أو «النجم القائد إلى الحياة الرغدة». مبارك التكنوقراطي الحريص، اخترع أسلوباً يستفيد به من المحظور والممنوع والسري من دون أن يمنحه الاعتراف الكامل.
تعمل الجماعة، وتحتفظ بلقب «المحظورة»، تماماً كما تطارد شرطة البلدية الباعة المتجولين في شوارع القاهرة، الذين يؤلفون عماد ما سمي الاقتصاد السري الذي كان يضخ في مصر ما يقرب من ٨٠ مليار جنيه، حسب الإحصاءات الرسمية، و٩٥ مليار جنيه حسب مراكز بحثية غير حكومية.
الشراكة لم تكن معلنة. الرئيس هذه المرة موظف، لم يكن يحب نظرية الصدمات الكهربائية، ولا استعراضات سلفه (السادات) الذي استعان بالإخوان لطرد اليسار وإبعاده بقوة المؤمنين، وكانت «الجماعة» في مقدمتهم.
مبارك الموظف مؤمن بالصفقات، وأسلوب الجزرة والعصا، وانتهى بكل هذا إلى اقتسام السلطة: القصر له والشارع للإخوان. قسمة افتراضية، استطاع بها أن يسيطر على المعارضة كلها، من خلال تدجين الأحزاب «الشرعية» في مقارّ تحت حراسة حاملي مفاتيح يحصلون على أوامرهم وخطة حركتهم من جهاز أمن الدولة. الجماعة وجدت أرضاً مسموحاً بها، احتلتها بما أنها «المحظورة»، الاسم الذي استأثرت به، رغم أنها ليست وحدها التي ينطبق عليها «حظر العمل السياسي»، لكن الاسم أضاف إلى الجماعة سحر الاضطهاد.
ورغم أن الجماعة لم تتحرك سياسياً، واعتمدت أساساً على قوة بناء التنظيم، ورفع شعارات تمنع السياسة مثل «الإسلام هو الحل»، لكنها ظلت طوال حكم مبارك «أقوى تنظيم سياسي معارض في مصر»، بل إنها كونت صورة «المعارضة الوحيدة القادرة على منافسة الحزب الوطني في الحكم». التحكم في الاقتصاد السري، مع استمرار سريته وحظره، هو اختراع نظام مبارك الذي عاش به اقتصادياً ٣٠ سنة تقريباً، لكنه في الأيام الأخيرة لم يعد قادراً بالطبع على ملاحقة رغبات المجتمع في الخروج من الأزمة الراهنة.
لم يعد الاقتصاد السري قادراً على تكوين أطر حديثة للنمو الاقتصادي، ولم يعد السماح لجماعة الإخوان بالعمل تحت سمع أجهزة الأمن وبصرها، يصلح ليكون مؤشر اتساع الهامش الديموقراطي. هذه الأساليب في استمرار نظام السيطرة بالأطر المتهالكة، خلقت أزمة كبرى، وشروخ عبرت منها ثورة ٢٥ يناير.
الجماعة إذاً لم تكن أقوى ثورية، بل إنها، في بيان صدر عنها قبل الثورة بيومين فقط، قدمت نصائح يمكن أن يتفادى بها نظام مبارك الثورة الشعبية. البيان صدر معبراً عن حالة تماهي مع الجمهورية الأبوية، ودفاعاً عن البطريرك الذي يحكم في قصر الرئاسة، وفي مكتب الإرشاد معاً.
الجماعة تعيش في هامش الأب، وليس بعيداً عنه، لذلك دافعت يوم ٢٣ كانون الثاني عن استمرار الجمهورية الأبوية، لكنها مع نجاح الثورة في كسر الأقفاص، لم تمنع أعضاء فرادى من الوجود وسط سبيكة الثورة. وفي ميدان التحرير عرفت الجماعة للمرة الأولى العمل المشترك، أدركت أن مهارتها في التنظيم ليست مطلقة، والعيش في الأرض المحظورة ليس سياسة، لكنه وجود يضمن البقاء، لكنه لا يحرر مصر من الاستبداد.
في الميدان اكتشفت المعارضة المدنية أن خروج «الإخوان» من الكهف لا يعني نهاية السياسة وإلغاء المدنية، لقاء غابت عنه الشعارات الدينية، وذابت فيه حواجز كثيرة، عندما ترك ال‘خوان هوايتهم في اللعب داخل أسوار الحديقة الخلفية للرئيس الأب وتنازلت المعارضة المدنية عن المخاوف الجاهزة. شكّل «الإخوان» جهاز أمن الثورة، وحمت الثورة جسم الجماعة من غدر السلطة المعتاد، وبهذه المعادلة انتصرت «ثورة ٢٥ يناير»، وضخت دماءً جديدة كادت تُسقط أبوية مكتب الإرشاد باعتبارها امتداداً لسلطة البطاركة من الرئاسة إلى الجماعة.
الآن، بعد أقل من شهرين على إزاحة بطريرك الرئاسة، عادت الجماعة إلى لعبها القديم على هامش الأب الجديد، الجيش. أرادت تحقيق وجودها منفرداً، ضد جسم الثورة، واقتناصاً لفرصته، أخرجت من متاحفها شعارات منع السياسة، وأنعشت طريقتها القديمة في إقصاء التيارات السياسية الأخرى بشعارات دينية، وإعلان مستفز عن أن الثورة من صنع الإخوان.
عصام العريان كرر العبارات في لهاث تلفزيوني، حكى فيه الحكايات بطريقة تشير إلى أن الجماعة عادت إلى ما قبل ٢٥ يناير. هل نسيت الجماعة ذاكرة ميدان التحرير؟ أم أنها دخلت في صفقة مع أب جديد ولم تعرف أنه سيرحل قريباً لأن الجمهورية الجديدة بلا أب؟ أين ذهبت القوى الثورية لإخوان ما بعد ٢٥ يناير؟ هل ستنشق هذه القوى وتنضم إلى حزب «النهضة» وعبد المنعم أبو الفتوح؟ هل ستذهب الجماعة إلى مصير النظام الذي كشفت وثائقه الأمنية عن تفاصيل الصفقات مع قادة مكتب الإرشاد؟ هل ستشهد الأيام القادمة خريف البطاركة في الجماعة؟