منذ خروج المحتجين اليمنيين إلى الشوراع للمطالبة بتنحّي الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، تتخذ الولايات المتحدة موقفاً داعماً للنظام، رافضةً أي حديث عن احتمالات سقوطه. مساعي واشنطن لتعزيز موقع صالح يمكن ملاحظتها من خلال الضغط على معارضيه للقبول بالحوار معه، في محاولة للحفاظ على أحد أبرز حلفائها الباقين في «حربها على الإرهاب»، بعد سقوط حسني مبارك وزين العابدين بن علي، اللذين اتّهمت بأنها سارعت إلى التخلي عنهما تحت وطأة الضغوط الشعبية المطالبة برحيلهما.
والموقف الأميركي الداعم لصالح تجلّى في العديد من التصريحات، أحدثها قبل ثلاثة أيام، عندما رحّب البيت الأبيض بالمبادرة التي أطلقها الرئيس اليمني لحلّ الأزمة السياسية في البلاد. وبالتزامن، حثّ مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الإرهاب جون برينان، الذي أجرى اتصالاً هاتفياً بصالح، كل أطراف المعارضة اليمنية على «الاستجابة بطريقة بنّاءة» لدعوة الرئيس اليمني لبدء «حوار جدّي» يضع حداً للأزمة، معتبراً أن المعارضة والحكومة تتشاركان المسؤولية في التوصل إلى حلّ سلمي.
موقف برينان جاء ليكمل ما كان قد بدأه السفير الأميركي في صنعاء، جيرالد فايرستاين، عندما رأى أن «السبيل الأمثل لحل مشاكل اليمن يتمثل في الحوار لا في التظاهرات، وإسقاط النظام لا يحل الإشكالات والتحديات التي تواجه اليمن في الوقت الراهن»، فيما لم يتأخر صالح في ترجمة الدعم الأميركي استباحةً لأرواح المحتجين المعتصمين في ساحة التغيير، مرتكباً في حقهم مجزرة جديدة، اكتفت واشنطن بالتعليق عليها، مشيرةً إلى «قلقها من العنف»، ومتجاهلةً أن قنابلها السامة التي منحت لقوات مكافحة الإرهاب اليمنية تحولت إلى سلاح يفتك بأرواح المعتصمين.
والتعليقات الأميركية ليست سوى غيض من فيض محاولات واشنطن الدفاع عن حكم صالح، سعياً إلى تدارك الأخطاء التي وقعت فيها خلال ثورتي تونس ومصر، بعدما وقفت تتفرج على انهيار حليفيها. ومنذ نجاح الثورتين في إسقاط حليفين أميركيين من الطراز الأول، دقت الإدارة الأميركية جرس الإنذار لمنع تكرار السيناريو نفسه في أي دولة عربية حليفة لها، حفاظاً على مصالحها الاستراتيجية في منطقة باتت تعتمل تحت وطأة ثورات واحتجاجات شعبية متنقلة من بلد حليف إلى آخر، مطيحةً حلفاءها من الحكام العرب، فيما لا تزال هذه الاحتجاجات بعيدة حتى اللحظة عن خصومها السياسيين، ليظهر أنهم في مقدمة المستفيدين من تنقل أحجار الدومينو في المنطقة.
في تلك اللحظات، كانت الأنباء الواردة من اليمن توحي أن البلد الذي يلامس ضفاف الدول الفاشلة مرشح أكثر من أي بلد آخر ليكون محطّ الثورة التالية. فالتظاهرات المنددة بصالح كانت قد بدأت تتصاعد، والطلاب الذين خرجوا في الأيام الأولى بالمئات للاحتجاج على ما طرحه نواب حزب المؤتمر الحاكم من مبادرات لتأبيد حكم صالح باتوا يفترشون الأرض بالآلاف، والاحتجاجات التي بدأت ضيقة في صنعاء، بدا واضحاً أنها ستتمدد لتشمل مختلف المحافظات.
عند هذه النقطة، سارعت وزيرة الخارجية الأميركية لزيارة صنعاء فجأة، في أول زيارة لوزير خارجية أميركي إلى اليمن منذ أكثر من ٢٠ عاماً. اجتمعت بصالح وأفهمته أن محاولات توريث حكمه أو تأبيده لم تعد وصفة تصلح في زمن الثورات إذا ما أراد الحفاظ على منصبه، فيما الإصلاحات تحولت إلى فريضة يجب أن يؤديها سريعاً. بعدها اجتمعت كلينتون بأركان المعارضة، فخرجت متيقنة من أن بديل علي عبد الله صالح ليس جاهزاً. فالمعارضة التي التقتها كلينتون لم يكن خيار إسقاط صالح على أجندتها، وجلّ ما كانت تصبو إليه هو المشاركة في الحكم، ما جعلها عاجزة عن تقديم تصور مقنع للفترة المقبلة من تاريخ اليمن. أما الخلافات بين مكوناتها فعديدة، ولا يجمع بينها سوى معارضة صالح، فيما إشارات تمرد حلفاء صالح والابتعاد عنه لم تكن قد بدأت بعد بالتبلور. فالقبائل بمعظمها كانت، في شهر كانون الثاني، في عداد الحلفاء الأكثر التصاقاً بالرئيس، فيما الجيش الذي تسيطر عليه بنحو رئيسي عائلة صالح لم يصدر عنه ما يثير القلق.
وبين اللقاءين كانت الرسالة قد وصلت سريعاً إلى الرئيس اليمني، فبدأ خطوات تراجعية، معلناً التخلي عن أي خطط لتوريث حكمه أو تأبيده، ومطلقاً جملة من المبادرات السياسية للحوار مع المعارضة، ظناً منه أن أحزاب اللقاء المشترك ستسارع إلى تلقّف ما يتقدم به. ولكن المفاجأة كانت في خروج قرار القبول أو الرفض من يد المعارضة وانتقاله إلى الشباب المنتشر في ميادين الاعتصام. مرة جديدة وجدت واشنطن نفسها مضطرة إلى التدخل، فعقد السفير الأميركي لقاءً على عجل بأحزاب المعارضة، وفحوى اللقاء رسالة واحدة لا غير: «تظاهروا قدر ما تشاؤون، ولكن كونوا في المقدمة، وحذار أن تتركوا القرار للشارع». إلا أن السفارة الأميركية في صنعاء، ومن خلفها واشنطن، أخطأت مجدداً في قراءة نبض الشارع، بعدما رأت أن الكلمة الفصل للمعارضة، وتحديداً حزب الإصلاح الذي عاود السفير الأميركي الاجتماع بقيادته على نحو منفصل ظناً منه أنه قادر على إطفاء جذوة الاحتجاجات، التي تخشى واشنطن من أن تؤدي في حال نجاحها في إطاحة صالح إلى فتح الباب أمام المزيد من المشاكل في بلد يواجه من التحديات ما يفوق قدرة أي بلد آخر على تحمّله.
فاليمن ذو مكوّنات قبلية متجذرة لطالما سبّبت الخلافات في ما بينها في أزمات لا تحمد عواقبها، ولا سيما بعدما تحولت القبائل إلى عامل مؤثر في الحياة السياسية، فيما السلاح بمختلف أنواعه تحول إلى أنيس لليمنيين، مانحاً إياهم لقب أكثر شعوب العالم تسلّحاً. أما الفقر والبطالة وتردي الوضع الاقتصادي فمشاكل لم تغب يوماً عن حياة اليمنيين، قبل أن تنضم إليها خلال السنوات القليلة الماضية تحديات أكثر تعقيداً.
ففي الجنوب يواجه النظام حراكاً يطالب بفكّ الارتباط مع الشمال والعودة إلى ما قبل الوحدة اليمنية. وقياداته إن ارتضت مؤقتاً تنحية مطلب فك الارتباط للمشاركة في إطاحة صالح، لا تبدو أنها مستعدة للتخلي عن استعادة دولتها الخاصة، سواء بقي صالح أو رحل، على الرغم من الدور الذي أدّاه الرئيس اليمني في تأجيج الأزمة الجنوبية، بعدما فشل في احتواء مظالم الجنوبيين لتتحول إلى مطالب سياسية تهدد وحدة البلاد.
أما في الشمال، فالحروب بين الجيش اليمني وأتباع عبد الملك الحوثي باتت صفة ملازمة لليمن، لا تكاد تنتهي إحداها حتى تعود لتشتعل حرب جديدة، من دون أن يدرك أحد لماذا بدأت أو كيف انتهت. أما نتائج الحرب، فغالباً ما تنتهي لمصلحة الحوثيين، إذ يزداد نفوذهم وتوسّعهم. وبعدما كانوا محصورين في صعدة، انتقلت سيطرتهم إلى عمران وجوارها. ولم تعد، منذ الحرب السادسة، مشكلة الحوثيين مشكلة محلية بحتة، بعدما دخلت السلطات السعودية على خط المعارك، مانحةً الحرب بعداً إقليمياً، لم يكن الصراع مع إيران بعيداً عنه، ولا سيما أن طهران متهمة دائماً بدعم الحوثيين ومحاولة إيجاد موطئ قدم لها بالقرب من الحدود السعودية.
ومن الشمال إلى الجنوب، أحسن تنظيم «القاعدة» استغلال الأزمات السياسية المتصاعدة، موسعاً انتشاره في بؤر التوتر. وبعدما كان التنظيم في اليمن محلياً فقط، أسهم اندماجه مع الفرع السعودي تحت مسمى «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» في توسيع نشاطه بين اليمن والسعودية، قبل أن ينتقل إلى محاولة تنفيذ عمليات في الولايات المتحدة، بعدما تحول اليمن إلى مركز التخطيط لعمليات التنظيم العالمي، ولا سيما بعد التضييق الذي بدأت قياداته تلاقيه في أفغانستان أو باكستان. فكان أن نجح التنظيم في إقناع الشاب فاروق عبد المطلب بمحاولة تفجير طائرة مدنية أميركية في رحلة ما بين أمستردام وديترويت في نهاية عام ٢٠٠٩، كذلك نجح في تحريض الطبيب في الجيش الأميركي نضال حسن على فتح النار على زملائه مردياً ١٣ منهم، قبل أن تُكتشف طرود مفخخة كانت مرسلة من اليمن إلى الولايات المتحدة ومخطط لها أن تنفجر لدى وصولها إلى وجهتها النهائية، وهي مراكز عبادة يهودية.
تطورات حتّمت على الولايات المتحدة أن توسع من تنسيقها الأمني القائم في الأصل منذ عقود مع نظام صالح، ولا سيما أن الولايات المتحدة كانت حاسمة لجهة عدم رغبتها في تكرار السيناريو الأفغاني أو العراقي في اليمن، لعجزها عن فتح جبهة جديدة في حربها ضد الإرهاب. فغدت، منذ عام ٢٠٠٩، الأجواء اليمنية مفتوحة بالكامل أمام الطائرات الأميركية من دون طيار لتضرب من تشاء ومتى تشاء على الطريقة الباكستانية، بعدما وجدت رئيساً لا يمانع في استباحة سيادة بلاده، ما دام يدرك أن المُستبيح ليس سوى الولايات المتحدة، التي ستكون له خير سند في أي أزمة.
سبب إضافي يدفع واشنطن إلى الخشية من انهيار اليمن، وهو موقع البلد الاستراتيجي من الناحية البحرية، ولا سيما بعدما طالت تهديدات القاعدة مضيق باب المندب.
ويعدّ مضيق باب المندب، الذي يقع بين اليمن والقرن الأفريقي، ممراً استراتيجياً يمر فيه خط الملاحة البحرية لقناة السويس، ويُعدّ ممراً إجبارياً للعدد الأكبر من بواخر النفط، فيما يمثّل القراصنة الذين ينتشرون في البحر الأحمر قلقاً إضافياً، بعدما وسّعوا نشاطهم من الصومال إلى مقربة من الحدود العمانية، وتمكنوا أخيراً من خطف ٤ أميركيين ومن ثم قتلهم.



... وإسرائيل تخشى سقوط صالح

حذر الباحث في معهد الأمن القومي الإسرائيلي، يوئيل جوجانسكي، في مقال بعنوان «في اليمن: انهيار مرتقب خطر»، من مخاطر سقوط النظام في اليمن وتأثيراته السلبية على الأمن الإقليمي والدولي. ورأى أن «العنف بين القبائل، والجريمة، والقرصنة في البحار، ونسبة شبان غير تناسبية، والجوع والأمراض، جزء فقط من التحديات التي يواجهها اليمن في الحياة اليومية». وأشار إلى أن «إضعافاً آخر لسلطة أجهزة الدولة، يجب أن يقلق من يريدون إيقاف تأثير إيران المتنامي في المنطقة، التي اتهمها بتحويل اليمن إلى ساحة لزيادة تأثيرها».
وخلص الكاتب إلى إن إسقاط نظام علي عبد الله صالح قد يفضي إلى «مس آخر بالقاعدة الإقليمية التي تؤسسها الولايات المتحدة في السنين الأخيرة، وإلى الإضرار بمكافحة الإرهاب العالمي، وهي مكافحة كانت حكومة اليمن مشاركة فيها».