ما قبل التلاسن الشهير بين العقيد معمر القذافي ووليّ العهد السعودي، في حينه، عبد الله بن عبد العزيز في مؤتمر القمة العربية سنة 2003، ليس هناك الكثير مما يُروى عن العلاقة بين الرجلين. قد تكون أسباب عدّة أدّت إلى المشادة، ولكن الحظر الرسمي الذي يحيط بالحياة الشخصية للزعماء العرب، يجعل من الصعب الوقوف على ما جمع الرجلين قبل هذا التاريخ. ولكن الأحداث بعدها تعطي نموذجاً لشخصنة العلاقات العربية ـــــ العربية وفق أهواء الحكام.
تبدأ الحكاية في آذار 2003. المكان في قمة شرم الشيخ. القذافي كان كعادته يلقي أحد خطاباته الرنانة، فإذا به يتحدث عن القوات الأجنبية في بعض الدول الخليجية، وتحديداً السعودية، وكشف عن مكالمة هاتفية بينه وبين الملك في ذلك الحين فهد بن عبد العزيز، قال فيها إنه ناقش الملك فهد في الوجود الأجنبي أثناء العدوان العراقي على الكويت عام 1990. ردّ فهد، بحسب ما يروي العقيد، بأن «أميركا دولة عظمى وتقدر أن تدخل إلى أي أرض تشاء».
حديث أثار غضب وليّ العهد عبد الله. لم يستطع أن يتمالك نفسه، فما كان منه إلا أن تدخل مقاطعاً القذافي وملوّحاً بيده، بوجه تملأه علامات الشدّة والغضب: «كلامك مردود عليك، والمملكة العربية السعودية دولة مسلمة وليست عميلة (أو عبيدة) للاستعمار مثلك ومثل غيرك». وتساءل صارخاً وموجهاً كلامه إلى القذافي: «من جابك للحكم؟ قلّي من جابك؟»، قبل أن يتابع «ولا تتكلم ولا تتورط في أشياء مالك فيها حق ولا نصيب... الكذب هو إمامك... والقبر هو قدّامك».
توتر انعكس على العلاقات بين الدولتين، فأعلنت ليبيا استدعاء سفيرها لدى الرياض، وقال القذافي إنه ينوي سحب عضوية ليبيا من الجامعة العربية. وهدّد مؤتمر الشعب العام الليبي بقطع أو خفض العلاقات الدبلوماسية مع السعودية بعد النيل من رمز ليبيا الزعيم معمر القذافي.
انسحبت الأزمة على تحديد هوية ليبيا العربية. فـ«استمرار بلاده عضواً في الجامعة العربية في الفترة السابقة كان بسبب غياب مجموعة من الحقائق الجغرافية والديموغرافية، فيما نحن في الأساس دولة أفريقية. هذا الانتماء كاد يطمس كوننا دولة أفريقية. نحن اليوم على وعي بالحقائق، ونستوعب تماماً متطلبات العصر، وأصبحنا نشغّل عقولنا أكثر من عواطفنا»، بحسب العقيد.
وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل وصف القذافي بأنه «لا يمتلك شيم الرجال». واستغرب «لم يعتذر لولي العهد، لأن من لا يمتلك شيم الرجال ولا يتسلح بالقيم النبيلة، لا يمكن أن يبادر إلى مثل هذه الأشياء».
أيام قليلة بعدها، وقرّر القذافي قتل عبد الله. العنجهية العربية ترفض أن تسوّي مشاكلها إلا بحدّ السيف. قالت صحيفة «واشنطن بوست» إن القذافي المشتعل غضباً اجتمع بعد أيام من المشاحنة برؤساء استخباراته في طرابلس، وأمرهم بالإعداد لخطة سرية لاغتيال عبد الله.
وفي عدد 10 حزيران 2004، كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مؤامرة الاغتيال. وقالت إن «اثنين متورطان في المؤامرة، هما عبد الرحمن العمودي، أميركي الجنسية، والعقيد الليبي إسماعيل، ضابط الاستخبارات الليبي، بالتنسيق مع المعارضين السعوديين سعد الفقيه ومحمد المسعري المقيمين في لندن».
وفي 2005، كتبت «واشنطن بوست» أن مؤامرة اغتيال عبد الله كان يقصد منها أن تحمل بصمات تنظيم «القاعدة». وتحدثت عن 13 مشتبهاً فيهم، 8 سعوديين و5 ليبيين، بينهم أربعة من عناصر الاستخبارات. وألقي القبض، داخل فندق في مكة، على الليبيين وهم يسلّمون نحو مليون دولار نقداً إلى سعوديين جرى التآمر معهم لاغتيال عبد الله. وكان يفترض أن يحصل الاغتيال بعد ثلاثة أسابيع من هجوم «القاعدة» في الرياض في تشرين الثاني 2003، الذي قتل فيه 17 شخصاً وجرح 22 آخرين.
وأشارت الصحيفة إلى أن المسؤولين الأميركيين أبدوا تشكّكهم في جدّية هذه المؤامرة، التي وصفتها وثائق التحقيق السعودية بأنها «خطة هواة». وقالت إن العملاء الليبيين تورطوا في مشاكل عندما حاولوا تهريب مليون دولار إلى المملكة. في البداية حوّلوها إلى المصرف الخاطئ في المدينة، ثم لفتوا انتباه مديري المصرف السعودي عندما سحبوا كميات ضخمة من الأموال نقداً من فرع آخر في مكة. وعندما تسلّموا الأموال وضعوها في حقائب عدة وتركوها داخل غرفة في فندق «هيلتون» في مكة، كي يأخذها العميل السعودي الذي أُصيب بالذعر عندما رأى كل هذه الكمية من الأموال، وفرّ هارباً فارغ اليدين، قبل أن يرسل الليبيون شخصاً آخر لالتقاط الأموال.
بعد الكشف عن مؤامرة الاغتيال، قررت السعودية طرد السفير الليبي، وسحبت سفيرها من طرابلس. المؤامرة التي نفاها قطعاً القذافي، أكدها أخيراً المندوب الليبي في الجامعة العربية، عبد المنعم الهوني، المنشق عن نظام القذافي في أعقاب الثورة الليبية، مشيراً إلى أن القذافي خطط لاغتيال عبد الله أكثر من مرّة. وقال إن السعودية أفرجت عن الرجلين الضالعين، «ولم يتّعظ النظام، وكرّر المحاولة». (أصدر الملك عفواً في 2005 عن المتهمين باغتياله).
وعلى ما يبدو، فإن المحاولة الثانية لاغتيال عبد الله كانت في 2009، بحسب ما كشفته الاستخبارات البريطانية من تهريب مبالغ نقدية إلى لندن لتوفير السلاح والمواد المتفجرة لاغتيال عبد الله، خلال زيارته لندن.
المحاولة الثانية أيضاً لم تنجح، قبل أن تنفرج العلاقة في العام نفسه خلال افتتاح القمة العربية في قطر. وبينما كان أمير قطر حمد بن خليفة يلقي كلمته الافتتاحية، قاطعه القذافي مخاطباً الملك السعودي بالقول «لأخي عبد الله، ست سنوات وأنت هارب وخائف من المواجهة. أريد أن أطمئنك إلى ألا تخاف، وأقول لك بعد ست سنوات ثبت أنك أنت الذي الكذب وراءك والقبر أمامك! (كان حديث عبد الله في تلاسن قمة 2003 الكذب إمامك والقبر قدّامك) وأنت هو الذي صنعتك بريطانيا وحاميتك أميركا».
وتابع: «احتراماً للأمة أعتبر المشكل الشخصي الذي بيني وبينك قد انتهى، وأنا مستعد لزيارتك وأنك أنت تزورني. أنا قائد أممي وعميد الحكام العرب وملك ملوك أفريقيا وإمام المسلمين. مكانتي العالمية لا تسمح لي بأن أنزل إلى أي مستوى آخر وشكراً». خطاب متعثّر احتوى على نقد فارغ ومباشر من دون أي اعتذار، لكن ذلك لم يمنع الزملاء العرب من التصفيق، قبل أن يتدخل أمير قطر «أخ معمر اعتذر إذا كنت فهمتك غلط، وشكراً على كلمتك الموفّقة!». وغادر القذافي بعد ذلك القاعة. وداخل أروقة مقرّ انعقاد القمة في الدوحة، جرى تداول أحاديث في حينها عن «استياء» القذافي وخروجه للتنزّه على كورنيش الدوحة وزيارته للمتحف الإسلامي، قبل أن يلحق به أمير قطر «ليراضيه» ويعيده إلى القمة، ثم يجمعه مع الملك عبد الله.



السعودية وحصار ليبيا

في مقابل العلاقة المتوترة بين القذافي وعبد الله، فإن الدبلوماسية السعودية، ممثّلة بالسفير السابق لدى واشنطن بندر بن سلطان، أدّت دوراً أساسياً في فكّ العزلة الليبية. وبدأت هذه الجهود في 1998 مع زيارة بندر الاستكشافية لليبيا، قبل أن يتحرك بعدها باتجاه الولايات المتحدة وبريطانيا بالتعاون مع الرئيس نلسون مانديلا، وبالتنسيق مع الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي آنان، حيث تكلّلت هذه الجهود بإحداث اختراق في آب من العام نفسه، حين أبلغت الحكومتان الأميركية والبريطانية مجلس الأمن، في رسالة مشتركة، قبولهما إجراء محاكمة الليبيين المشتبه فيهما في قضية لوكربي أمام محكمة اسكوتلندية.
وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول، كان بندر حلقة الوصل بين الغرب وليبيا، ممهداً للتعاون بين الطرفين في ملف مكافحة الإرهاب والسلام. ونجحت بعدها الوساطة السعودية في فتح ملف التعاون الليبي الأميركي، من أجل فك الحصار عن ليبيا، وإعادتها إلى حضن المجتمع الدولي.