بروكسل | تفتح الثورات العربية مجمل الملفات بين الغرب والعالم العربي، إلّا ملف «الصراع العربي الإسرائيلي». المسؤولون والإعلاميون والخبراء والوزراء مستعدون لـ«نبش» كل الملفات ودراسة نسبة مساهمتها، إما في التغطية على مسبّبات انطلاق الثورات أو في زرع بذورها، إلا أنهم جميعاً ينظرون إلى وجهة لا تصوّب البتة إلى ملف الوضع في فلسطين. لا يمنع هذا من إبقاء درجة عالية من البرودة في معالجة انعكاسات هذه الثورات على الأوضاع الأوروبية. ومن أهم الانعكاسات، التي بدأت موجة التحذير منها بالتصاعد، هو ملف «المهاجرين».
الحديث عن جموع مهاجرين هاربة من أراضي الثورات والعنف هو حديث «مربح إعلامياً»، إذ إنه يستثير مسألة الخوف من «أهل الجنوب الفقير الزاحفين إلى الشمال الغني»، وهو شعار يروّج له ويحمله اليمين الأوروبي المتطرف، لكن أيضاً اليمين الوسطي، وبات عاملاً انتخابياً في بعض البلدان الأوروبية على نحو يمكن القول معه، إن «الربيع العربي» بات له دور في صنع السياسة الأوروبية الداخلية.
والواقع إن الاتحاد الأوروبي يخشى انهيار «الضوابط الأمنية»، التي «رتّبها» مع الأنظمة المنهارة في ليبيا وتونس لكبح اندفاع المهاجرين نحو شواطئه، إضافةً إلى الأزمة الاقتصادية التي يمكن أن تدفع المزيد من المهاجرين نحو الشمال.
وقد عبّرت سيسيليا مالمستروم، مفوّضة شؤون المهاجرين والأمن في المفوضية العامة للاتحاد، عن خشيتها بالقول «نحن قلقون بشدة من تطور الأوضاع في شمال أفريقيا»، كأنها تجيب إجابة غير مباشرة على تهديد القذافي بأن انهيار نظامه يعني «وصول جحافل المهاجرين من كل أطراف أفريقيا إلى أوروبا»، أي سقوط الاتفاق السابق والتعهد بمنع أي هجرة غير شرعية. اتفاق قبض ثمنه القذافي من إيطاليا.
وكانت مالمستروم قد زارت ليبيا في تشرين الأول من العام الماضي لـ«دراسة التعاون مع السلطات الليبية»، لأنها تدرك أنّ «مئات الألوف من المهاجرين تنتظر للزحف على أوروبا»، كما ذكر لـ«الأخبار» أحد المقربين من المفوضية، الذي ردّد بأن «أوروبا ليست مستعدة لاستقبال مثل هذه الأعداد» في حال وصولها، إضافةً إلى أنها سوف «تزيد من حدة الخطاب المعادي للمهاجرين والإسلام عموماً».
أما كلود غيان، «رجل ثقة» الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي منذ أكثر من عشر سنوات، الذي خرج من الظل لتسلّم وزارة الداخلية، فقد أعلن في أول مداخلة له في البرلمان الفرنسي أن «مهمته الأولى هي التصدي للهجرة غير الشرعية»، وذلك في صدى لتصريح ساركوزي قبل يومين في مداخلة تلفزيونية، الذي جاء فيه «نعرف جميعاً ما هي النتائج المترتبة على هذا النوع من التراجيديا بالنسبة إلى تيارات الهجرة غير المنضبطة والإرهاب».
إلا أن معظم المسؤولين الأوروبيين لا يشاطرونه هذا الرأي: وزير الخارجية البلجيكي ستيفين فانكير رأى أن تهديد القذافي بـ«فتح حنفيات الهجرة غير الشرعية هو تهديد سخيف»، بينما أكد وزير خارجية اللوكسمبورغ جان أسيلبورن أنه «لا يخاف من تهديدات رجل يطلق النار على شعبه».
في المقابل، شدد وزير الخارجية التشيكي كارل شوارتزنبرغ على أن «انهيار نظام القذافي يمكن أن يمثّل كارثة» لأنه سوف يأخذ بطريقه كل الضوابط السابقة، ويفتح باب الهجرة إلى الشواطئ الإيطالية. رغم هذا فإن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا ترفض أيّ حديث عن «تخصيص ميزانية لمعالجة آثار الهجرة غير الشرعية»، كما تطالب إيطاليا، خوفاً من أن يمثّل هذا «نوعاً من عرض مغر» للمهاجرين.
قدّ يفسر هذا إرسال عدد من الدول الأوروبية طرّادات وبواخر حربية إلى عُرض شواطئ ليبيا تحت مبررات عدة، إلا أن أكثر من مراقب يؤكد أن الهدف الأول هو «الحلول محل قوات حرس الشواطئ الليبية» لمنع عبور المهاجرين الأفارقة والليبيّين والتونسيين، الذين يمكن أن تدفعهم الظروف إلى محاولة الوصول إلى أوروبا.
فرنسا أرسلت أول من أمس حاملة الطوافات «ميسترال» في مهمة، وصفها الناطق الرسمي في الخارجية بأنها «إنسانية»، تهدف إلى نقل ما يزيد على ٦٠٠٠ مصري من جانب الحدود التونسية إلى بلادهم. وقد ذكر أحد المقربين من ملف ليبيا في الحلف الأطلسي أنّ نسبة كبيرة من الدول التي تعارض التدخل العسكري في ليبيا لا تفعل ذلك فقط لأسباب سياسية يمكن تبريرها، بل لأن «أيّ تدخل عسكري يفرض واجبات على الدول المشاركة في الحملة»، وفي مقدمتها «تأمين الغذاء والملاذ الآمن» لمن يهرب من مناطق القتال.
مواقف السياسيين الأوروبيين مبنية بطريقة مباشرة على مصالحهم السياسية المحلية، وهذا ما يسمح بسماع شريحة واسعة من الآراء التي تقترح وقف تدفق المهاجرين بالقوة العسكرية في عُرض البحر، بعدما «زال الوكيل الليبي»، وهو ما جرى بعد إعلان إطلاق عملية «هرمس ٢٠١١» ونشر قوات في جنوب إيطاليا وفي محيط مالطا والدفع بمزيد من القطع البحرية.