جاءت استفاقة المجتمع الدولي الغربي إزاء مجازر ليبيا، أمس، مطعَّمة بتهديد عسكري أميركي، في ظل اقتراب ثوار 17 فبراير من مقرّ إقامة العقيد معمر القذافي، الذي رفع سقف تهديده لشعبه وللغرب. أما نجله سيف الإسلام، فبقي في عالم آخر، مبشِّراً بانتهاء القتال اليوم... وفي اليوم التاسع للمجزرة المتواصلة في ليبيا، خرج «المجتمع الدولي» الغربي عن صمته على صورة مشروع قرار عقوبات دولية، وبما يشبه قرع طبول الحرب والتدخُّل العسكري الأميركي المباشر في الجماهيرية. واشنطن والاتحاد الأوروبي وحلف شمالي الأطلسي، جميعهم بدوا كأنهم فقدوا الثقة بقدرة العقيد معمر القذافي على السيطرة على الموقف، وإنهاء «الحرب» سريعاً، فتذكّروا أنه يرتكب مجازر «قد تكون جرائم ضد الإنسانية»، وبالتالي يجب إيقافه عند حدّه، بما أنّ الخطر يقترب أكثر فأكثر من آبار النفط ومن مصالحهم في منطقة غارقة أصلاً في عدم الاستقرار. استفاقة متأخرة لم تصب شظاياها الحكام العرب الذين ظلوا صامتين كلياً إزاء المجزرة المستمرة، ربما لأنّ معظم الأنظمة كانت تعوّل على قدرة جرائم القذافي على وقف ثورة شعبه، وبالتالي وقف «مفعول دومينو» الثورات التي تطيح رؤوس الدكتاتوريات العربية الواحد تلو الآخر.
ويوم أمس، شهد السباق بين الوضع الميداني الليبي، وجهود «المجتمع الدولي» لفرض عقوبات أو اتخاذ قرار بالتدخل العسكري، قفزة نوعية؛ فقد بات شبه مؤكد أن خطوة كبيرة سيتّخذها «المجتمع الدولي» الغربي في غضون أيام قليلة، حين تتضح صورة التطورات الميدانية في المدن الليبية. تطورات أعطت الأنباء الواردة من الجماهيرية، أمس، صورة متناقضة عنها؛ ففيما بدا أنّ الخناق يضيق حول العقيد معمر القذافي في عدد من الأحياء من العاصمة طرابلس، جاء ظهوره المفاجئ وسط الجماهير في الساحة الخضراء، مساءً، ليعيد خلط صورة الوضع الميداني. كل ذلك وسط المزيد من الانشقاقات التي شهدها السلك الدبلوماسي الليبي كما العسكري منه. الرسائل الغربية وصلت سريعاً إلى آل القذافي، الذين ظهروا كأنهم يتقاسمون الأدوار؛ معمر القذافي يهدد ويلوّح بمقاومة الغرب لدحره، وابنه سيف الإسلام يعرض الحوار ويتعهّد التوصل إلى حلّ على شكل هدنة ووقف لإطلاق النيران اليوم!
وقد عقد مجلس الأمن جلسة مساء أمس، بدعوة من بريطانيا وفرنسا، اللتين قدمتا مشروع قرار ظل غير رسمي بست صفحات، لفرض عقوبات على ليبيا، أهم بنوده: فرض حظر بيع الأسلحة على ليبيا، وحظر سَفَر مسؤولين كبار وتجميد أصولهم المالية، إضافةً إلى اعتبار مشروع القرار أن الهجمات ضد المدنيين الليبيين «ربما تكون جرائم ضد الإنسانية تستدعي المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي». وقد أرجئت المشاورات لتُستأنف اليوم عند الساعة 11 صباحاً بتوقيت نيويورك.
مشروع قرار لا يرجّح أن يبتّ جدياً قبل الأسبوع المقبل، أي بعد أن تنتهي عملية إجلاء الآلاف من الرعايا الأجانب المقيمين في الجماهيرية. وكانت وزيرة الخارجية الفرنسية، ميشيل إليو ماري، المتوقع أن تقدم استقالتها من منصبها في غضون أيام أو ساعات حتى، قد كشفت النقاب عن مضمون القرار، مع تحدُّث مصادر فرنسية عن أن باريس تفضّل اتخاذ قرار دولي ضد ليبيا تحت البند السابع من ميثاق المنظمة الدولية، في ظل دعوة المندوب الفرنسي إلى عقد جلسة قريبة للجمعية العامة للأمم المتحدة، لطرد ليبيا من المنظمة الدولية.
وفي افتتاحه جلسة مجلس الأمن، أشار الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، إلى أنه «حان الوقت لمجلس الأمن كي يتخذ قرارات وعقوبات بحق القيادة الليبية»، على قاعدة أن الساعات المقبلة «ستكون مصيرية»، كاشفاً أنه سيتوجّه بعد غد الاثنين إلى واشنطن للقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما، والتدارس معه بشأن نوعية القرارات والعقوبات الواجب اتخاذها.
وفي كلمة مؤثّرة، هاجم الرفيق القديم للقذافي، المندوب الليبي لدى الأمم المتحدة، عبد الرحمن شلقم، «العقيد»، داعياً مجلس الأمن إلى إنقاذ ليبيا فوراً، ومعترفاً بجرائم القذافي المتواصلة منذ 42 عاماً. وبذلك، يكون شلقم قد حسم خياره نهائياً بالافتراق عن صديق طفولته القذافي، لينضمّ إلى طاقم وفده الذي أعلن انشقاقه عن النظام.
وكانت الإدارة الأميركية قد باشرت اتخاذ خطوات عقابية أحادية الجانب بحق ليبيا، عبّر عنها تعليق أعمال السفارة الأميركية لدى ليبيا، وتعليق العلاقات الدبلوماسية مع طرابلس، ووقف العمل بالاتفاقيات العسكرية بين البلدين. وكشف المتحدث باسم البيت الأبيض جاي كارني عن قرارات بلاده، مشدداً على أن تكون خطوات واشنطن ضدّ نظام القذافي منسَّقة مع الحلفاء الأوروبيين، مع تأييدها «بقوة» تعليق عضوية ليبيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. كلام أرفقه المتحدث الأميركي بإعلانه أن العقوبات الأحادية الجانب السالفة الذكر «ليست الخيارات الوحيدة أمام أميركا»، بما أن «شرعية القذافي أصبحت صفراً». وردّاً على سؤال عما إذا كانت أميركا مستعدة لخيار توجيه ضربة عسكرية لليبيا، أجاب كارني «كل الخيارات واردة»، رغم أن المندوب الفرنسي لدى مجلس الأمن جاك أورو، نفى أن يكون الخيار العسكري مطروحاً حالياً.
وفي بروكسل، اعترف الأمين العام لحلف شمالي الأطلسي، أندرس فون راسموسن، بأنه، حتى الآن، لم يناقش فرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا، وذلك في مؤتمر صحافي عقب اجتماع لوزراء دفاع دول الاتحاد الأوروبي، بحضور مسؤولة السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد كاثرين آشتون. وبعد اجتماع وزراء دفاع الاتحاد، صرّح دبلوماسي أوروبي بأنه لم يكن هناك اعتراضات على فكرة فرض عقوبات على نظام القذافي، «لكن الصيغة القانونية وتفاصيل أخرى لم تقرّ بعد». وتابع «نتوقع اتخاذ قرار رسمي مطلع الأسبوع المقبل، ربما الاثنين أو الثلاثاء». ولفت دبلوماسي آخر إلى أن الهدف هو تنسيق هذه الخطوة مع الولايات المتحدة والأمم المتحدة عن طريق مجلس الأمن.
وكان سيف الإسلام القذافي قد أشار، في وقت متأخر من مساء أمس، خلال مرافقته لصحافيين أجانب نُقلوا إلى طرابلس، إلى أن قواته تكبح النيران في قتالها مع «الإرهابيين»، آملاً التوصل «إلى اتفاق لوقف إطلاق النار من خلال التفاوض اليوم السبت». وعن القتال المستمر في مدينتي مصراتة والزاوية القريبتين من العاصمة، قال القذافي الابن: «خارج مصراتة والزاوية، كل شيء هادئ بعيداً عن أكاذيب الإعلام، لكن في هاتين المدينتين (الغربيتين)، لدينا مشكلة. نحن نتعامل مع إرهابيين، والجيش قرر عدم مهاجمة الإرهابيين ومنح فرصة للتفاوض. نحن متفائلون بإنجاز (الأمر) سلمياً، وسنفعل ذلك بحلول غد السبت»، متعهداً عدم إلحاق الأذى بالمستسلمين من الثوار.
وكان العقيد قد أطل فجأةً على حشد من مؤيديه في الساحة الخضراء في العاصمة، معلناً أن مخازن السلاح «ستُفتح عند اللزوم لتسليح الشعب والقبائل لتصبح ليبيا ناراً حمراء وجمراً»، داعياً مؤيديه إلى حماية «منجزات بلادهم ونفطها»، إضافةً إلى «الغناء والرقص والاستعداد للقتال». وقال القذافي، الذي خاطب مؤيديه من على سطح مبنى مرتفع، محاطاً بالحراس، «نستطيع أن نحطّم أي عدوان، بالإرادة الشعبية وبالشعب المسلح، وعند اللزوم ستفتح المخازن ليتسلح كل الشعب الليبي، وكل القبائل الليبية. ليبيا ستصبح ناراً حمراء، ستصبح جمراً». وطالب العقيد مؤيديه بالاستعداد للدفاع عن ليبيا ومنجزاتها و«عن النهر الصناعي العظيم، استعدوا للدفاع عن البترول، استعدوا للدفاع عن الكرامة وعن الاستقلال، عن العزة والمجد». كذلك حذّر الغرب على قاعدة أنه «إذا أرادوا أن يمسّوا جزءاً من تراب ليبيا الغالي، فسنهزم أي محاولة خارجية كما هزمنا من قبل الغارات الأميركية والاستعمار الإيطالي». وختم القذافي خطابه لافتاً إلى أنه «إذا كان شعبي لا يحبني، فلا أستحق الحياة حتى يوماً واحداً».
وفور انتهاء خطاب القذافي، بدأت الأنباء تتوالى على وكالات الأنباء العالمية عن فتح أنصار القذافي النيران على المعارضين، موقعين أعداداً غير معروفة من القتلى والجرحى.
وكان القذافي قد أجرى اتصالاً هاتفياً مع الرئيس السوري بشار الأسد «في إطار التنسيق والتشاور المستمر بينهما بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك»، بحسب وكالة الجماهيرية الرسمية للأنباء (أوج).
ميدانياً، أكّد عدة شهود عيان من العاصمة طرابلس الغرب، أن المعارضين للقذافي باتوا يتشاركون السيطرة على طرابلس مع قوات القذافي ومرتزقتهم، بموازاة سقوط 3 مدن في الجبال الغربية، غربي طرابلس، بيد الثوار. وأكّدت مصادر أنّ القذافي «بات محاصراً أكثر من أي وقت مضى في منطقة العزيزية ومحيطها» البالغة مساحتها نحو 4 كيلومترات مربعة، وتحتضن مجموعة من الأبنية ومقر الإذاعة الليبية ومساكن آل القذافي.
وكان يوم أمس قد بدأ بتظاهرة معارضة ضمّت نحو عشرين ألف متظاهر في الساحة الخضراء بعد صلاة الجمعة، حيث سقط عدد من القتلى والجرحى في اشتباكات دارت بين مناصري القذافي ومناوئيه. وفي طرابلس أيضاً، أمكن إحصاء سبعة قتلى على الأقل وإصابة العشرات في أحياء فشلوم وزاوية الدهماني وبن عاشور والسياحية وسوق جمعة. وبينما تصاعدت التظاهرات «المليونية» في مدن محررة شرق البلاد، أبرزها بنغازي، نجح المحتجون في الاحتفاظ بسيطرتهم على مدينتَي الزاوية ومصراتة القريبتين من طرابلس، وصدّوا هجمات مضادة نفذتها القوات الموالية للقذافي. وفي السياق، أعلنت قوات الجيش والشرطة في مدينة أجدابيا، في شرق البلاد، لفضائية «الجزيرة»، أنها انسحبت من ثكنها، وانضمّت الى المعارضة.
وبموازاة ذلك، كشف عضو في القيادة المؤقتة لمدينة بنغازي في «حركة 17 شباط»، عبد السلام نجيب، أنّ المحتجين يسيطرون على كل حقول النفط الواقعة شرقي بلدة رأس لانوف تقريباً، لافتاً إلى أن الحقول ومرافئ النفط تعمل بنحو 25 في المئة من طاقتها الإنتاجية.
وكان يوم أمس مميزاً من حيث انضمام أعداد كبيرة من الدبلوماسيين والسياسيين والعسكريين الليبيين إلى المستقيلين من مناصبهم الرسمية. وأبرز المنشقّين الجدد عن نظام القذافي، النائب العام في ليبيا، عبد الرحمن العبار، ورئيس إدارة التفتيش القضائي في بنغازي، المستشار إبراهيم الخليل، إضافةً إلى مجموعة من ضباط الجيش وسفراء ليبيا لدى البرتغال وفرنسا واليونسكو، وعدد كبير من الدول الأخرى.
(الأخبار، رويترز، يو بي آي، أ ف ب)