القاهرة ــ «سلطة راحت سلطة جات، هيه هيه المرتبات»، بهذا كان يهتف عشرات من موظفي وزارة الأوقاف أمس، الذين تجمعوا وقطعوا، تقريباً، الطريق أمام الوزارة في شارع صبري أبو علم المتفرع من ميدان التحرير، الذي استعادت الدولة سيطرتها عليه أمس. في الميدان، التاسعة صباحاً، كان لا يزال هناك كر وفر. متظاهرون يأبون مغادرته وتفكيك خيمهم، والجيش يحاول إقناعهم. أغلبهم من الريف، عرفوا طريق القاهرة، والأهم طريق المطالبة بحقوقهم. لكل مطالبه. ملايين المحرومين. خلط بين المطالب الكبرى والصغرى: بين مطلب تعديل الدستور مثلاً وتثبيت متعاقدي مصلحة الكهرباء. بين حلّ مجلس الشعب وبين استرداد قطعة أرض من فاسد استولى عليها. فهم الناس أن الثورة تحمل همومهم، فانطلقوا يعبّرون عنها، ببراءة من يعرض همه المباشر، من ينتظر من عصا الثورة السحرية أن تحل كل مشاكله فوراً. الكل «بيتكلم» في السياسة، الشأن العام، بعد طول صمت. الثورة «قلبت المواجع» فهدرت أمواج الناس في الفسحة العامة التي يكتشفونها للمرة الأولى ربما. كل يعرض حاله، والتلفزيونات تنقل. الناس لا يتوقفون عن التحدث في السياسة، أي شخص قد يفتح معك حديثاً، هكذا، في الشارع. أماني، السيدة المنقبة، كانت مثلي تقف في حلقة كبيرة تجمعت حول «خناقة» بين بعض التجار الذين يريدون استعادة حركة ميدان التحرير لأن محالّهم هنا، وبين بضع صحافيين تلفزيونيين يريدون إجراء مقابلات مع المواطنين. يدفعوننا باتجاه الشوارع الفرعية. هي تظن أنه «مش لازم نسيب الميدان». تسأل: إيه الضمانات؟ تجيبها فتاة عشرينية: «ما إحنا راجعين الجمعة الجاي. لو ما نفذوش حنعرف ناخد الميدان تاني». قاصدة الدعوة إلى التظاهر يوم الجمعة المقبل «احتفالاً بانتصار الثورة».
وصباح أمس كانت دائرة ضخمة من النقاط الحمراء، العائدة لقبعات رجال الشرطة العسكرية (لا شرطة الأمن الداخلي المكروهة) تحيط بالميدان المسترد تحت حماية الجيش. غير بعيد، صاحب مقهى «كاظم باشا» بدوره غيّر اسم مقهاه إلى مقهى «25يناير». ليس المقهى الوحيد الذي فعلها. يمازحه شاب يقرأ الصحيفة هنا: «طب نمرتك كام؟». كأن الناس يريدون إثبات مكتسبات ثورتهم بالكتابة، بالتسميات، خوفاً من تبددها. الوجه الآخر لهذا الخوف كان مبثوثاً في كلام الشارع. خائفون من المماطلة وعودة القديم بلبوس جديد ويسألون: «ايه اللي حيجمعنا بعد كدة؟». أمام المقهى، حيث قطع موظفو الأوقاف الطريق تقريباً بتظاهرتهم، انهمكت سيدة ترافقها صبية محجبة بنقاش مع رجل لا تعرفه يقرأ الجريدة. تصيح به: «ما تسيبوش التحرير. دول عينو أديب (صحفي التلفزيون عماد الدين) مكان أنس الفقي. يعني هيه هيه. مش ح نعرف نتجمع تاني. دول بيكذبوا علينا بيمشوا وشوش بس النظام هو هو. ما تسيبوش التحرير، أنا بقلك أهو». تقول بغضب.
ضجة مفاجئة من جهة التظاهرة. تقف مع الواقفين وإذا بك تلمح رأس شقراء بين الجموع كأنها تحاصرها. تقترب، لكنك تفاجأ بشاب، يبدو أنه صحافي أجنبي، يخرج من بينهم ويطلق ساقيه للريح، فما كان من بعض المتظاهرين إلا أن انطلقوا خلفه. هناك حساسية ضد «الأجنبي». ليس عن عبث اتهم النظام شباب 25 يناير بأنهم مسيّرون من أجانب. الأجنبي في المناسبات الوطنية يعادل إسرائيلياً. معه حق أن يخاف نتنياهو. سيدتان محجبتان تقبلان من الشارع الذي فر إليه الشاب. إنهما غاضبتان. تسمع كلمات من الخناقة البعيدة «يعني إيه أجنبي؟ مش إداك بياناتو؟ هوه في إيه؟ في إيه؟» تصيح إحداهما.
لكن الخوف من الأجنبي ليس الخوف الحقيقي اليوم للمصريين المكتشفين لتوهم قوتهم الهائلة. هم يريدون أن يربحوا الوقت لتنظيم أمورهم. ولو أنهم خائفون كثيراً. لم يمتحنوا من زمان قدراتهم. «رجل الأعمال» هشام عبد الرحمن (كما عرف عن نفسه)، الذي التقيناه في مقهى في حي بولاق الدكرور، يبادرنا بسرعة وهو يأخذ نفساً من نرجيلته: «أنا عارف. العرب مستنيين نلغي كامب ديفيد. دلوقت ما نقدرش. ليه؟ لأن كل العالم باصص علينا. البلد من دون رئيس. وعشان نلغي لازم موافقة مجلس الشعب. والمجلس اتحل. الكلام ده بعد ما البلد تستقر». ثم يضيف بدبلوماسية: «بس إسرائيل لو عايزة المعاهدة، يبقى عليها شروط: أولاً دولة فلسطينية، وبعدين تفتح الضفة على غزة، وترجع الفلسطينيين». وماذا عن غزة، وفتح معبر رفح على الأقل؟ يجيب: «حتى رفح ما نقدرش دلوقت، حضرتك عارفة أن ده معبر أفراد. ما نقدرش لأنه في سلاح هناك في الشوارع، وعندنا 800 عسكري بس على الحدود. تلت لواء. ما ينفعش». ويختم: «لما أأمّن بلدي؟ أعمل اللي أنا عايزو».