القاهرة| جمهورية جديدة؟ كيف سيكون شكل الدولة بعد حسني مبارك، آخر وريث ديكتاتورية العسكر المتخفّي بالملابس المدنية؟ الجنرالات لا يزالون يحكمون مصر منذ ٦٠ سنة، بما يسمونه شرعية مدنية، لكنها شرعية ناقصة ولا تمنح إلا لجنرال «غالب ومسيطر»، كما تقول شرعية العسكر رغم غلافها المدني. مبارك حكم بشرعية سيطرته على أجهزة القوة في مصر، وعندما انحازت القوات المسلحة إلى الثورة
، لم يكن هذا سوى إعلان نزع شرعية «الغلبة والسيطرة» عن مبارك، والسعي إلى استبدالها.
المجلس العسكري الحاكم حالياً، يطرح طمأنات إلى أن الدولة مدنية، والجمهورية الجديدة ليست عسكرية، لكن هذا لا يعني أنها ستكون خالية من جنرالات. كلام يثير القلق والخوف من بقاء المجلس العسكري إلى ما لا نهاية، ولا يزال في الذاكرة وعد «الضباط الأحرار» بالعودة إلى الثكن العسكرية وتسليم الدولة إلى المدنيين، وهو ما لم يُنفذ من 23 تموز 1952، حتى عاد العسكر بوضوح مع سقوط مبارك.
العودة العسكرية الظاهرة من دون أغلفة مدنية، تعيد قضية تأسيس الدولة الذي لم يكتمل تقريباً منذ سيطرة الضباط الأحرار على السلطة. الضباط الأحرار، برتبهم الصغيرة، لم يكن لهم دراية بإدارة الدولة، كما لم تكن لهم خطوط ارتباط مع حاضنات اجتماعية أو سياسية، يمكنها أن تنشئ دولة ما بعد الملكية والاحتلال.
لم يكن الضباط هم الجيش، كانوا شريحة «ثورية» استولت على الحكم، ووضعت الدولة «تحت الإنشاء» إلى أن سقط نظام مبارك، وعاد الحديث عن بناء الدولة من جديد، مختلطاً بتخوُّف من استمرار العسكر، رغم طمأناته.
التفاؤل يقول إن «مؤسسة» الجيش ليست تنظيم «الضباط الصغار»، ولم يعد مقبولاً اختطاف المؤسسة العسكرية للدولة، وتكوين جمهورية عسكرية، أو تغطية العسكرة بـ«البدلة الميري» كما يسمّي المصريون زي الجيش. المشكلة الكبرى هنا أنّ التأسيس يحتاج إلى «ثورة»، لأن المؤسسات تحت حكم جمهوريات «التحرر الوطني» لم تكن سوى أشكال وهمية، نماذج ورقية، يقف عليها كبير يختاره الرئيس. وبحسب سطوة الكبير عند الرئيس أو في مواجهته، يكون تأثير المؤسسة ونفوذها.
إقطاع سياسي أكثر منه مؤسسات دولة، والفارق هنا كبير بين جمال عبد الناصر وحسني مبارك: الأول ساحر يخرج من بين ضباط تموز، يوازن بين حكام إقطاعياته، بمشروعية الجاذبية الجماهيرية، والأبوّة الحنونة القادرة على صنع معجزات في مجالات محددة، لكنها لم تستطع بناء الدولة. أما مبارك، فقد تعامل بمنطق كبير الموظفين، ومؤسساته كانت منزوعة الفعالية لأنها إقطاعيات يدير كل منها موظف بمثابة نصف مستشار لرئيس تحميه بيروقراطيته، وخلفيته في الإدارة العسكرية.
وضع أدّى في النهاية إلى أن الدولة التي بُنيت على صناعة إلهام الجماهير في عهد عبد الناصر، انتهت إلى وضع كانت تعلن فيه أنها لن تقبل أن تلوي الجماهير ذراعها، ورفضت تحويل الاستجابات للمطالب إلى قاعدة في العلاقة بين الدولة وجماهيرها، وخصوصاً أن ملفات المطالب المؤجلة لم يكن النظام قادراً على مواجهتها، ويكتفي ببراعته في تأجيلها. أما ما يحدث الآن في الأيام الأولى لانتصار الثورة، فليس سوى انفجار «المؤجَّلات»، تحديداً لأن الدولة التي لم يكتمل إنشاؤها، تآكلت تقريباً قبل سقوط رأسها، وامتصت دمها وحوش مهووسة بالمال والسلطة. وحوش لم تكن تشبع، ولا تكتفي من الثروات المنهوبة بغير حساب.
انفجار المؤجلات يفتح الباب على ما يشبه «فوضى ما بعد الانتصار»، بداية من فراغ سياسي لا يشغله حزب أو تيار سياسي كبير، وكذلك لم يتبلور رأس للثورة بعد، وقفزت العناصر الخفيفة لتكوّن كيانات وهمية لا يعرفها أحد مثل «مجلس قيادة الثورة»، أو «مجلس أمناء الثورة». كيانات يتصوّر القيّمون عليها أنهم يشغلون موقع أبوّة لثورة ضالّة، بينما الرأس الفعال لا يزال غير قادر على صياغة أفكارها أو برنامجها، لكنها تمثّل إيقاع حركة تلاحق المجلس العسكري ببرنامج بناء «جمهورية جديدة» لـ«مصر الجديدة».
صراع بين «الثورة» والفوضى، تطفو فيه «طفيليات» من العهد البائد أو من ضحاياه، وتريد الانتقام، وتصعّد المظالم الشخصية على سلم الثورة لتحتل مواقع تتصور أنها شاغرة، وهذه جميعها جسر الثورة المضادة إلى خنق الثورة من رأسها.
المطالب الاجتماعية كلها معلقة في «هلام» اسمه الثورة، يتّخذ شكله القوي، لكن بسرعة لا تناسب هوجة المضطهدين أو الباحثين عن نصرة لمظالمهم، ولإصلاح ملفات متراكمة من العهد البائد.
الفوضى تطفو على بحيرة الثورة، مستغلّةً لحظة رومنسية الانتصار، لتفتح استعراض الدموع والانتقام في مقابل التفكير والبناء. هذا ربما ما دفع المجلس العسكري إلى إصدار البيان الخامس الذي يدعو فيه إلى وقف المظاهر الاحتجاجية، لأنها من وجهة نظره تربك السعي إلى الاستقرار. كيف لا، فالاستقرار طبيعة عسكرية، وليس مدخلاً فقط إلى مؤامرة يبحث عنها العسكر لينقلبوا على الثورة. هذا ما يطرح 3 سيناريوات في تعامل الجيش مع مرحلة إعادة البناء بعد سقوط مبارك:
1 ــ السيناريو الأسوأ: يحدث إذا تدهورت الأوضاع بسبب زيادة المطالب الاجتماعية والاعتصامات والتظاهرات، ويصل الانفلات الأمني إلى حدود خارج السيطرة العادية للجيش، وهنا ستطبق الأحكام العرفية، ويقود الجيش البلاد، مستعيناً بالحكومة الانتقالية، بخبرات في الحزم لا في السياسة، وتصبح الإدارة عسكرية بالكامل تقريباً، وذلك لفترة أطول من الأشهر الستة التي التزم بها «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» في بيانه الرابع.
2 ــ سيناريو الالتزام مع التأجيل: وفيه سيلتزم الجيش بتعهداته، لكنه يضطر إلى البقاء في الإدارة العليا للبلاد فترة أطول من الأشهر الستة، تاركاً أمر الإدارة العملية لحكومة انتقالية من خبرات مختلفة في الحكم، وبقيادة نصف عسكرية لكنها لا تثير المخاوف كما يثيرها وجود الفريق أحمد شفيق على رأس حكومة تسيير الأعمال، باعتباره رمزاً من رموز العهد البائد. هذا السيناريو قد يكون فرصة لجماعات سياسية في تكوين نفسها، أو إعادة تكوين نفسها لكي لا تقتنص الجماعات الجاهزة والمنظمة فرصة الوقت الضيق وتقفز على المشهد السياسي. إنها فرصة لإعادة تركيب الحياة السياسية وترتيبها وفق خريطة أكثر انفتاحاً وتعددية حقيقية. هدف قد لا يلتفت إليه الجيش في تصوراته عن مستقبل الحياة السياسية، لكنه ضروري لتحويل الديموقراطية من فكرة أو أمل أو رغبة، إلى واقع
وممارسة.
3 ــ سيناريو الالتزام الكامل: بموجبه، سيلتزم الجيش بوعوده كاملة وفي مواعيدها. يسبق كل هذا تأليف حكومة انتقالية مدنية بالفعل، يوكَل إليها تنظيم انتخابات رئاسية، لتسبق الانتخابات البرلمانية التي لن تسمح حالة جهاز الأمن المدني بإتمامها بما يضمن سلامة العملية الانتخابية وتحقيق الأمن. هنا سيكون الهدف من انتخاب الرئيس، وضع قيادة للبلاد في المرحلة الانتقالية، ويعود الجيش إلى ثكنه مجدداً.
لكن هذا السيناريو تقابله معضلة دستورية، هي أن الرئيس ستتعطل إجراءات حلفه اليمين نظراً إلى غياب مجلس الشعب بعد قرار المجلس العسكري بحله، وبالتالي سيُستبدل المجلس الدستور بإعلان دستوري يحصل فيه الرئيس على الاعتراف عبر طرق أخرى غير مجلس الشعب.
الطريق ليس واضحاً بعد أمام المجلس العسكري. قد يكون هدفه واضحاً: الاستقرار، وخصوصاً أن أي جهة سياسية تملك برنامجاً لطريق تأسيس جمهورية تضع للمؤسسة العسكرية دوراً في حماية الاستقرار، وتبعدها عن الحكم والتحكم.
يسمع قادة الجيش المصري اليوم أصواتاً تطالبهم بالنموذج التركي، لكنهم يعيشون على مسافة مع أحلام مصطفى كمال «أتاتورك» في صناعة جمهورية مدنية يحميها الجيش ويصونها.
جمهورية برلمانية للرئيس فيها صلاحيات محدودة في الشؤون العليا، والحكم الحقيقي هو لمجلس وزراء من الحزب الفائز في الانتخابات.
هذه غالباً «تفاصيل» بالنسبة إلى المجلس العسكري، لأن هناك تصوراً بأن الموديل التركي يُفقد النظام مركزه، أي الرئيس، والجيش تربّى على أن الدولة في مصر مركزية، منذ الفراعنة حتى اليوم، فهل يمكن إعادة صياغة الموديل التركي ليتلاقى مع هوى الدولة المركزية؟ أم أن الجمهورية الجديدة ستكون استنساخاً لجمهورية يوليو بملامح أكثر ديموقراطية؟
هل تنجح «الثورة» في الدفاع عن بناء بنى تحتية لدولة ديموقراطية، أم تعود إلى موقع رد الفعل المنتظر لقرارات السلطة؟
الثورة بالطبع غيّرت الزمن السياسي، وكسرت عقلية الانتظار، لكن ثقل سنوات الانتظار لا يزال جاثماً، والثقة بالنفس لم تعد بالكامل بعد. إنّه الصراع من أجل دولة ديموقراطية، دولة للشعب خالية من أجهزة تسلطية، لكنه هذه المرة وفق أفق فتحته ثورة، وهزّت الجميع.
وهنا يحلو للمتفائلين بحسن نيات الجيش أن يسندوا تفاؤلهم بما أبلغه عضوان في «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» للناشط وائل غنيم وسبعة نشطاء آخرين بأن المجلس «يأمل الانتهاء من صياغة التعديلات الدستورية خلال عشرة أيام وطرح الدستور الجديد على الاستفتاء في غضون شهرين تمهيداً لإجراء انتخابات».