الإسكندرية| مثلما تجاوز الشعب المصري، بثورته، المؤسّسات الدينية المرتبطة هيكلياً بنظام حسني مبارك، والداعمة له مباشرة، فقد تجاوز أيضاً الحالة السلفية بتنوّعات خطابها، إذ لم يقتصر الانهيار على مؤسستي الأزهر والكنيسة القبطيّة. فقد بدت هذه التيارات السلفية داعمة بوضوح للنظام، أحياناً بترتيب منه أو بتطوع منها، وأحياناً أخرى بفعل طبيعية الموقف السلفي الرافض جذرياً للثورة، بل والرافض للمعارضة السياسية ولمبدأ المعارضة عموماً، وهو ما سعى النظام إلى استثماره جيداً قبيل الثورة وفي أثنائها. بالإجماع، قاطع السلفيون الثورة، كما كانوا قد قاطعوا من قبلها أي معارضة سياسية. ربطوا بين الثورة وبين الفتنة، وهم يقبلون بظلم ثلاثين عاماً ولا يقبلون بالثورة، على حد تعبير أدبياتهم. وكانت الثورة لحظة مهمة لظهور هذا التحالف غير الموثق، وربما غير المخطَّط له بين نظام مبارك والسلفية. بين السلفية التي يرعاها ويحميها، وهي التي تمثل امتداداً للسلفية السعودية، وبين السلفية التي لا يتردد في البطش بها والتنكيل بأفرادها دورياً، لأسباب شتى.
ومن مفارقات مشهد الثورة المصرية أنّ النظام، الذي كان قد أوقف بث القنوات السلفية قبل فترة وجيزة من الثورة، وحمّلها مسؤوليّة العنف الطائفي وكل أزماته تقريباً بعدما رعاها زمناً وأفسح لها مجالاً على قمره الصناعي «نايل سات»، عاد ليوظّف رموزها وشيوخها في حربه على الثورة، وهذه المرة على قنواته الرسمية والخاصة المرتبطة به هيكلياً. هكذا استضافت قنواته الإعلامية عدداً كبيراً من رموز السلفية، أمثال محمد حسان ومحمود المصري ومصطفى العدوي وآخرين. وأطلق هؤلاء سيلاً من الدعوات والفتاوى لوقف التظاهر، مزيَّنة بحديث طويل عن «نعمة الأمن والأمان وخطر الفتنة وحرمة الخروج» عن الطاعة. حتى وصل البعض إلى الطعن الصريح في وطنية من يحركون الثورة، بل وفي أصل الثورة بالحديث عن أنها مؤامرة صهيونية أميركية مرة، أو إيرانية مرة أخرى. وكان التدخل الانتهازي للقيادة الإيرانية على خط الثورة، والادعاء أنها «ثورة إسلامية» وامتداد للثورة الإسلامية في إيران، سبباً إضافياً للحرب السلفية على الثورة.
وكان لافتاً أيضاً الترابط بين الخطاب السلفي الوهابي المصري، وجذره في السعودية. إنّ مفردات الخطاب السلفي المصري في تحريم الثورة والطعن في المنتفضين، هي نفسها مفردات الخطاب السلفي الوهابي ـــــ السعودي التي جاءت مكثفة وصريحة في حديث مفتي السعودية عبد العزيز آل شيخ الذي قطع بأنّ كل حركات الاحتجاج والثورة في العالم العربي هي «مؤامرات غربية على الأمة الإسلامية».
كان مفهوماً ومتوقعاً موقف هذا القطاع من التيار السلفي، وخصوصاً أن له سوابق تؤكد ارتباطه الصريح بالنظام، وكان آخر تعبيراته الفتوى السلفية الشهيرة بوجوب قتل المعارض البارز محمد البرادعي، باعتباره «من الخوارج». وسبق أن خرجت فتوى أخرى عن التيار نفسه تمنع الترشح في الانتخابات الرئاسية عام 2005 ضد مبارك باعتباره «ولي أمر المؤمنين». لكن الذي لم يكن متوقعاً موقف التيار السياسي في التيار السلفي، والمقصود به «مدرسة الدعوة السلفية» في الإسكندرية. لقد استقر النظر إلى هذه «المدرسة» باعتبارها أقرب للاستقلال عن النظام إن لم تكن معارضة له. وكثيراً ما تعرضت للتضييق منه ولحملات اعتقال بلغت ذروتها بعد الهجوم الدموي الذي تعرضت كنيسة القديسين ليلة رأس السنة. لقد اعتقل المئات من السلفيين، بل قُتل أحدهم (السيد بلال) تحت وطأة التعذيب، ورغم ذلك رفض سلفيو مدرسة الدعوة السلفية في الإسكندرية وأكثر من عشرة محافظات ينتشرون فيها، دعم الثورة، وشددوا على عدم المشاركة فيها، ثم بدأوا حملة التخويف منها ومن تداعياتها، سواء ما يتعلق بـ«الفتنة والهرج والمرج»، وفق التعبيرات التراثية. حتى وصل الأمر إلى غلق بعض المساجد يوم جمعة الرحيل (مسجد أبي حنيفة في بولكلي مثلاً)، أو إثارة مخاوف حول الهوية الإسلامية التي يهددها صعود تيارات يختلفون معها، ربما في إشارة للبرادعي و«الجمعية الوطنية للتغيير».
لقد كان لافتاً أيضاً تصاعُد الدعم السلفي، المباشر وغير المباشر، للنظام، حتى صارت السلفية سنده الديني الأقوى وربما الأخير، وهو ما يمكن أن يؤكد أن مستقبل السلفية على المحك؛ فمثلما تجاوزتها حركة الشارع الثوري بما يجعلها محل نقد ومراجعة مستقبلاً، فالأرجح أنه في حال انكسار الثورة من دون تحقيق مكتسبات في تحول نحو نظام ديموقراطي حقيقي، فإن فرص السلفية في تثبيت مواقعها ستزداد، مرة لأنها ستؤكد مقولاتها في رفض الثورة وحتى المعارضة السياسية، ومرات لأنها ستكون الأطروحة الأكثر قبولاً ودعماً من النظام في مواجهة خصومه وحركة الشارع ومطالبه بالانتقال إلى نظام يحقق الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.
طبعاً، يتضمن هذا الرصد قدراً كبيراً ومقصوداً من التعميم عند الحديث عن التيار السلفي. فتموضُع التيار العام في الحالة السلفية ضد الثورة ومع النظام، لا ينفي واقع أنّ ثمة أصواتاً سلفية كانت في مستوى الثورة، وكان موقفها متقدماً بل وجذرياً في نقد النظام، ربما أكثر من تيارات ليبرالية ويسارية. وتجدر الإشارة هنا إلى مجموعة مشروع حزب الإصلاح الذي تبناه سلفيون سياسيون أبرزهم جمال سلطان نهاية التسعينيات من القرن الفائت.