حجازي هو محمد حجازي. أحد أروع رسامي الكاريكاتير العرب، وهو مصري. أصاب محمد حجازي ما أصاب الكثير من المبدعين العرب من متعاطي الشأن العام من باب عملهم. كانوا سريعين باستيعاب ما يحصل، تفاعلوا، نددوا، أولوا كل طاقاتهم لشرح ما يحصل، بالسخرية، بالرسم، بالكتابة، بالتظاهر، بطلب التغيير. أنفقوا كل طاقاتهم الإبداعية في هذا المكان، ثم لما فشل جيلهم، حاولوا نقل تجاربهم إلى الجيل الأصغر، تفانوا في بث الوعي بكل أسلوب ممكن. ثم، لما واظبت «الأوضاع» على تكرار نفسها، سكتوا. تعبوا. أفرغ الدوران في حلقة مفرغة طاقاتهم، استهلكهم. ظنوا أنهم لن ينجحوا أبداً في الخروج من هذه الحلقة اللعينة. بالأحرى ليس على أيامهم. التغيير آت، صحيح، لكن يوماً ما.حجازي، الذي عرفّني إليه الفنان الراحل بهجت عثمان صاحب «الديكتاتورية للمبتدئين»، كان قد أُصيب بهذا اليأس من زمان. استطاع بهاجيجو محاربة يأسه الشخصي بعد أن قيدت حريته في الرسم بالكاريكاتير، بإعادة تصويب المسار، بالرسم للجيل الجديد، للأولاد، يرسخ وعيهم لحقوقهم. طريقة للالتفاف على التجهيل. ثم حوّل نفسه نوعاً من مندوب تسويقي في مصر بين الشباب لمنتجات زياد الرحباني، وخصوصاً لحلقاته الإذاعية التي كان يراها «أهم مدرسة تحريضية سياسية» في النصف الثاني من القرن العشرين، كما كان يحب أن يقول، ناسخاً وموزعاً أشرطة كاسيت «العقل زينة» و«بعدنا طيبين قول الله» إلخ. أما محيي الدين اللباد، فقد حاول غسل عيوننا، بمزج عبقري بين الغرافيك والرسم والكاريكاتير والغرافيتي. بتبني الرسامين الصغار والإمساك بأيديهم نحو الجميل. كان يبحث عن الجمال الجديد، المعركة البديلة التي اختارها اللباد. لكن ذلك لم يكن كافياً لحجازي. لذا، بما أنه يحب العرق، فقد كان غالباً ما يغرق أحزانه المواطنية فيه. حزن مصري في مشروب لبناني. هذه عروبة أيضاً.
أقلع «حُجُز» كما يحلو لأصحابه مناداته، عن الحياة العامة شيئاً فشيئاً. لا أعرف تماماً متى، في أي لحظة سياسية أو عامة أو خاصة. لكنه فعلاً، أقلع عنها شيئاً فشيئاً، كأنما تكرار الأحداث كان يصيبه بغضب لم يعد يستطيع إدارته. إلى أن «نزل بالغواصة»، كما يقول، منذ أكثر من عشر سنين ولم يعد يخرج من منزله. كان الرفقاء والأصحاب يتآمرون عليه «لاستخراجه» من هناك. وأحياناً كانوا ينجحون. هكذا، تعرفت إليه في بيروت، حين حمله صديقاه جميل شفيق «الجميل»، وبهاجيجو، على المجيء إلى بيروت تلك السنة. كانت معجزة.
لم أعد أعرف كيف أجريت تلك المقابلة معه. كنت أعرف شغله بالطبع، وكنت مسحورة به. كنت قد عثرت على كاريكاتير له يعود لأيام مناقشة التطبيع بعد توقيع الصلح مع إسرائيل، يصوّر فيها مصر فتاة جميلة تجلس على مقعد حديقة عامة، وقد جلس إلى جانبها ذئب يرمز إلى إسرائيل، محاولاً أن ينتزع منها قبلة، وهي تشيح بوجهها قائلة له: «أرجوك، أعتبر اللي بينا مجرد صداقة». طلبت مقابلة.
وهكذا كان. انتظرني في مقهى الروضة، مدخناً نارجيلة. كان قد «بدأ يومه» باكراً، فأحمرت وجنتاه من الرضى والعرق والشمس. قال لي كلاماً بسيطاً وجميلاً. ساخراً في الوقت ذاته من نفسه ومن كلامه ومن كلامي بالطبع. كان غاضباً. لكنه بدا كأنه يحاول أن يبدو هادئاً مبتسماً. كأنما يحاول اختراع نوع جديد من الغضب.
نشرت المقابلة، لأكتشف في اليوم التالي أنها الأولى له منذ عشرين عاماً. هذا ما أخبرني به بهاجيجو في اليوم التالي، وما فهمته بعد اتصال العديد من الزملاء المصريين ليهنئوني بالسبق. رمية من دون رامٍ.
ثم عاد إلى مصر. ولم أره إلا مرة واحدة بعدها، حين زرته وصديقتي دلال في طنطا، إلى حيث لجأ إمعاناً في الابتعاد عن «المجتمع». لم يعد يخرج ولم يعد يرد على التليفون. لم يكن يفتح بابه حتى، إلا ليوم واحد: آخر الشهر. يوم يأتي فيه ساع من مجلة «صباح الخير» التي يرسم لها ومجلة «ماجد» للأطفال، فيعطيهم الرسوم الجديدة، ويأخذ الفلوس، ثم يغلق بابه. أما الهاتف، فلم يكن يرد عليه إطلاقاً. كان يجيب فقط على «الترنك»، أي الاتصالات الخارجية التي كان يعرفها من طريقة رن الهاتف. ثم تراجع الوضع، على ما يبدو، فلم يعد يرد حتى عليها.
لم أفكر وأنا أتابع ثورة المصريين إلا في حجازي. طبعاً فكرت ببهاجيجو وباللباد وبجوزف، أصدقائي الذين حُرموا رؤية بصيص الضوء في نهاية النفق، مع أنهم أعطوا حياتهم لقضية النهضة العربية.
لكن حجازي، بقي في رأسي، في معارك الكر والفر، لأنه لا يزال إلى جانبنا. كنت أفكر فيه، أحس بقلقه المموه خلف عدم الاكتراث. اتصوره يأتي ويذهب أمام التلفزيون (هل لديه تلفزيون؟) أو راديو، على الأرجح، بي بي سي. يتأرجح، خائفاً من الأمل. لا يريد أن يصاب بانتكاسة أخرى.
حاولت أن أكلمه منذ أيام لأعرف في ماذا يفكر. لكنه لم يرد. اتصلت بجميل، فكان صوته متحمساً واثقاً بالشباب والصبايا، نشوان بما يحصل. فطمأنني إلى صحته، لكنه أكد لي أن «حُجُز» لا يرد اليوم حتى على «الترنك»، واعداً بأنه سيتفقده في الأيام الآتية.
عيناي لا تزيحان عن الشاشة. أراقب أحداث «جمعة رحيل». هل سيكون اليوم حاسماً؟ مزيد من الدماء سيسيل على ما يبدو. الديكتاتور يقاوم. والشعب أدرك لعبته فأعلن متحدياً: الأسبوع المقبل أسبوع صمود. سأحاول غداً أن أتصل بحجازي في طنطا. ترى، هل سيرد حجازي على التلفون؟