القاهرة | ... في اليوم الثامن، قال حسني مبارك الكلمة الفصل: لن أكون زين العابدين بن علي ثانياً. أرادها أن تكون واضحة وضوح الشمس: إما التنحّي بكرامة، أو سأحرق مصر. هذا ما يمكن قراءته بين ثنايا كلماته، ليل أمس. وهو ما عمد رجال الاستخبارات المصرية إلى بثه في كل حدب وصوب: لا بد أن يخرج الرئيس بطريقة تليق «بخدمته» لمصر ثلاثين عاماً، ويجب أن تكون كرامته مصونة، معلنين موقفهم بأن الرئيس استجاب لكن «المتظاهرين متطرفون».
مصادر من قيادات المتظاهرين المتجمهرين في ميدان التحرير تقول إن خطاب مبارك حمل أربع رسائل: الأولى هي أن من يتحمل مسؤولية قتل أكثر من 300 شخص وأعمال الحرق والسرقة والنهب والاعتداءات التي نفذتها عصابات بلطجة يقودها ضباط حكوميون، ليس قوات الأمن بل المتظاهرون، أو من سمّاهم قوى سياسية اندست بين المتظاهرين. الرسالة الثانية، هي تهديد هذه القوى بالاعتقال والمحاكمة. الثالثة، هي إعادة الثقة بجهاز الشرطة الذي حصد كماً من الكراهية في صفوف المواطنين لم يعرفها من قبل بسبب الجرائم التي ارتكبها في الأيام الثمانية الماضية على الأقل. أما الرسالة الرابعة والأهم فهي أنه لن يتنحّى إلا عندما تنتهي ولايته، وأنه لن يقبل أن يحصل ذلك إلا بما «يليق بمن حمل الأمانة».
وتفيد معلومات المتظاهرين، الذين يقيمون بوابات تفتيش للدخول إلى مكان الاعتصام في ميدان التحرير، بأنه ألقي القبض على عناصر إجراميين ورجال شرطة يحاولون الاندساس في ما بينهم. وتضيف أن «هناك محاولة لإشعال التظاهرات. هناك خطة لإطلاق مندسين النار على قوات الجيش وجره إلى معركة مع المعتصمين». وتؤكد المعلومات نفسها أن «الجزء الثاني من الخطة هو عبارة عن حرب نفسية يشنها جهاز الإعلام التابع للنظام بكل أدواته، بدأت بشائعات عن أن التظاهرات إنما يقودها أجانب، ولا سيما أميركيون، لتقويض أمن مصر واستقرارها»، مشيرة إلى أن «هناك حملة منظمة لتحميل المتظاهرين مسؤولية كل ما يجري وتخويف الناس منهم ومن تحركهم. ومن بين الشائعات التي تطلق أيضاً، فرار أكثر من 30 ألف سجين جديد من السجون». أما الجزء الأخير من الخطة، بحسب المعلومات نفسها، «فيقضي باستضافة نجوم الفن والرياضة ليزرعوا الفزع والهلع في المدن المصرية عن طريق إقناع سكانها بأن هذه التظاهرات، التي تنظمها مجموعة من المخربين، ستؤدي إلى تجويع شعب مصر وانهيار اقتصاد مصر».
باختصار، هي محاولة لعزل الثورة في ميدان التحرير، والعمل على شق الشارع المصري، على ما أظهرته «تلك التظاهرات التي نظمها عناصر أمنيون وبلطجية بأمر من النظام تأييداً لمبارك. كان الرهان أن تشتبك التظاهرتان ويدخل البلد في حمام دم».
مصادر عليمة بشؤون وشجون ما يجري في مصر تقول إن «خطاب مبارك كان عبارة عن انقلاب على جميع التسويات التي كان يجري البحث فيها من أجل إيجاد مخرج للأزمة». وتضيف أن «الجيش أدّى، خلال الفترة الماضية، دوراً بالغ الأهمية. لقد أعطى الضوء الأخضر للمتظاهرين من أجل أن يضغط على مبارك، واستخدم في الوقت نفسه عناد هذا الأخير وتشبثه بالسلطة من أجل الضغط على المتظاهرين تحت عنوان أن هذا الأخير يريد أن يغادر السلطة بكرامة تليق بقائد عسكري». وتوضح أن «غاية الجيش من كل ذلك هي ضمان ألا يأتي النظام الجديد بشرعية متظاهري ميدان التحرير. أراد الالتفاف عليهم. هو يرفض أن يستمد النظام الجديد شرعيته من هذه الثورة، يريد أن تكون هذه الشرعية مستمدة منه ومن المعارضة في الوقت نفسه».
وتكشف المصادر نفسها عن أنه لذلك «طرح الجيش، عبر تسريبات نقلت إلى المعارضة، سيناريو للحل يقوم على أن يفوّض مبارك إلى عمر سليمان قيادة مرحلة انتقالية يتمتع في خلالها بصلاحيات إجراء إصلاح دستوري بمشاركة حكومة وحدة وطنية تضم جميع أطياف القوس السياسي مع مدة زمنية لإجراء الانتخابات الرئاسية تُحدد بستة أشهر». وتضيف أن «المعارضة رفضت هذا السيناريو وعرضت تولي شخصية يقبل بها الجميع، وبدأ التوافق على أن يتولى العالِم أحمد زويل، بعد الاختلاف على اسم محمد البرادعي، إدارة المرحلة الانتقالية على أن يعاونه مجلس حكماء». وتتابع هذه المصادر أن «المعارضة رفضت سيناريو عمر سليمان، وقالت أولاً بتنحية رموز النظام السابق كلهم على أن تُطبَّق القواعد الدستورية المعمول بها، وثانياً بأن يتولى الرئاسة رئيس مجلس الشعب أو رئيس المحكمة الدستورية. كان الرد على عرض سليمان بالحوار أن لا حل قبل التنحي».

خطاب مبارك

وكان مبارك قد باشر خطابه بمواصلة ما بدأه في كلمته السابقة، مساء يوم الجمعة، في «شيطنة» المتظاهرين والتظاهرات التي «تحوّلت إلى العنف والمواجهة والقفز على الشرعية الدستورية عبر قوى سياسية انتهزت أمن الوطن بتحريض وسلب ونهب وإحراق واعتداء على مرافق الدولة». من هنا، وضع مبارك معادلة جديدة ـــــ قديمة: «أنا أمام خيارين: إما الفوضى أو الاستقرار الذي يفرض علينا واقعاً جديداً». وأمام دعوة الحوار الذي رفضت المعارضة مباشرته قبل رحيل مبارك، توجّه الرئيس إلى الشعب مباشرة بكل فئاته قائلاً: «لم أكن يوماً طالب سلطة ولا جاه وليس من طبعي خيانة الأمانة ولا التهرب من المسؤولية»، مشيراً إلى أن «هدفي تأمين انتقال سلمي للسلطة لتأمين تسلم من يختاره الشعب» خلفاً له في الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في أيلول المقبل. وفي هذا السياق، قال مبارك إنه لم يكن أصلاً راغباً في الترشح مجدداً، متعهداً بالعمل «حتى الانتخابات، على اتخاذ الخطوات الكفيلة بانتقال سلمي للسلطة».
وعرض مبارك رؤيته لحل الأزمة بدعوته مجلسي النواب والشورى إلى تعديل سريع للمادتين 76 و77 من الدستور بما يغير شروط الترشّح وتحديد فترة الرئاسة، موجهاً تعليماته إلى القضاء بالإسراع في بت الطعون الانتخابية المقدمة ضد النواب الذين نجحوا بالتزوير، ولملاحقة الفاسدين والمسؤولين عن السرقة والنهب والترويع.
وفي ما يشبه نعي النفس، والجزم بأنه لن يهرب من البلاد، ختم مبارك كلمته بالتأكيد أنه يعتزّ بتاريخه «وعلى أرض مصر سأموت وسيحكم التاريخ بما لي وما عليّ».
واشنطن: غير كافٍ
وسرعان ما خرج أوباما في تصريح أشاد فيه بالجيش المصري على مهنيته وعلى سماحه للمتظاهرين بالتعبير عن آرائهم، مشدداً على أنه ليس لأي دولة في العالم أن تختار من يحكم مصر، بل هذا من صلاحية الشعب المصري وحده. ثم أضاف أنه أجرى اتصالاً بمبارك بعدما ألقى خطابه السالف الذكر، وأنه أبلغه أن «عملية انتقال منظمة للسلطة يجب أن تكون سلمية وذات معنى، وأن تبدأ الآن وتشمل طيفاً واسعاً من المعارضة وتؤدي إلى انتخابات نزيهة وحكومة تتجاوب مع تطلعات الشعب».
وكان مسؤول أميركي قد رأى في وقت سابق أن خطاب مبارك «مهم، لكنه غير كاف. ينبغي معرفة ما إذا كان سيرضي مطالب المتظاهرين في ميدان التحرير». وأضاف: «من الواضح أن هذه الحركة تصبح أقوى، ولن تتوقف».
وكان مسؤول أميركي قد كشف عن أن المبعوث الخاص لأوباما، فرانك ويسنر، اجتمع أمس بمبارك، وسلمه رسالة من الرئيس الأميركي بشأن الحاجة للاستعداد «لانتقال سلس»، وعدم ترشيح نفسه لولاية جديدة في الانتخابات التي ستجري في أيلول المقبل.
وفيما جمع أوباما فريقه للأمن القومي لبحث الوضع في مصر، أعلن البنتاغون أن وزير الدفاع روبرت غيتس أجرى أمس اتصالاً هاتفياً مع نظيره المصري المشير محمد حسين طنطاوي تناول التظاهرات الضخمة التي تشهدها القاهرة.
ولقاء ويسنر بمبارك سبقته سلسلة من التصريحات الأميركية الداعية الرئيس إلى الابتعاد عن المشهد السياسي في بلاده، أبرزها من السيناتور جون كيري، الذي طلب من مبارك التنحّي جانباً عن السلطة وأن «يخرج نفسه وعائلته خارج المعادلة». كذلك فعل مارتن إنديك وريتشارد هاس الذي رأى أن أيام مبارك باتت معدودة.
وفي مقابل انتقاد مبارك، أبدت الولايات المتحدة انفتاحاً على الحوار مع أطياف المعارضة المصرية. وكشفت وزارة الخارجية الأميركية أن السفيرة الاميركية في القاهرة مارغريت سكوبي، تحدثت مع الدبلوماسي المصري محمد البرادعي، في أول اعتراف رسمي من الوزارة بالاتصال به.
وقالت مصادر مصرية إن «البرادعي عرض اقتراحين، الأول هو تأليف مجلس رئاسي مؤقت مكوّن من ثلاثة أشخاص أحدهما عسكري والاثنان الآخران مدنيان، والاقتراح الثاني هو أن يصبح اللواء عمر سليمان رئيساً مؤقتاً، ربما بتفويض من مبارك، خلال فترة انتقالية تشهد حل مجلسي الشعب والشورى وإعداد دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية حرة بعد إقرار هذا الدستور. البرادعي يميل الى الخيار الثاني».
وكانت سكوبي قد التقت مبارك في شرم الشيخ يوم الجمعة الماضي وطلبت منه ألا تُطلق رصاصة أخرى على المتظاهرين بعد اليوم، على ما تفيد المعلومات.