صباح الفُل، صباح الإسكندرية، وعبد الناصر. يهلل علاء مرحباً ويعلن: «سجل أنا مصري». كان ذلك بعد ظهر أول من أمس. قبلها بيوم واحد فقط قال علاء نفسه: «مليش دعوى». خاف «الغلبان» من السفارة. هرب من كثرة الأسئلة إلى خرطوم الوقود. اليوم هو الحدث. لكن، الأمن المصري أسطوري، وعلاء يصدق أنهم يعرفون ماذا يحلم ومتى يأكل وإلى أي جهة يدير وجهه حين ينام. السبت سقطت الأسطورة. تدحرج خوفه قاطعاً المسافة بين محطة المحروقات في الشيّاح إلى ميدان التحرير في القاهرة.
«الشعب يريد إسقاط النظام»، ردد بعينين متعبتين منذ ثلاثين عاماً، ضاحكاً، أمام أصدقاء له من جنسيات عربية مختلفة. في تلك اللحظة بدا متفوقاً عليهم. كأنه اقتنع بأن الخوف لم يعد ممكناً. في الأساس، كان عالقاً بين خيارين. يخشى التعرض للنظام؛ لأن ذلك سيعرقل أموره في السفارة المصرية من جهة، ومن جهة أخرى، يخاف الاصطدام مع البيئة الاجتماعية في الضاحية الجنوبية التي تعدّ النظام المصري متعاوناً مع العدو. أول من أمس، حسم خياراته. انضم إلى ملايين المصريين. صار يملأ الوقود برفق. ويتودد إلى الزبائن.
وإلى علاء، هناك عبدو. السكان في حارة حريك ينادونه أبو عبدو. يعرفون جميعاً أنه هو عبدو، وأن ابنه اسمه أحمد، لكنهم اعتادوا إطلاق الكنية الأولى. لا يبدو الناطور المصري مستاءً من هذا التنميط اللبناني. والآن فرصته سانحة ليذكّر الجميع بأنه مصري. يوم الجمعة استيقظ قلقاً. عائلته تسكن في حي القطامية بالقاهرة. حدسه يقول إن أشقاءه سيُفرغون بطالتهم في الشارع يوم «جمعة الغضب». الخطوط الهاتفية مقطوعة، كما آماله في التغيير. حتى ساعة متأخرة من ليل الجمعة ظل عبدو مراقباً عادياً. الناس يتفاعلون ويحللون الأحداث المتسارعة في مصر، وهو منقسم إلى رجُلين. رجل في الضاحية يريد أن يقول أخيراً: «أنا مصري ومعاكو»، لكنه متردد؛ فقد تعلم من دروس سابقة ألا يفرط في التفاؤل. ورجل آخر في القطامية تردد ذاكرته أصوات الأقارب. انتظر حتى منتصف الليل حتى التقط أحد هناك سماعة الهاتف الأرضي في المنزل البعيد. وتسرب الصوت دافئاً إلى عينيه. كان يسمع من عينيه. لم يقل الكثير. ظل يردد: «الله أكبر، ثورة؟»، مستغرباً كلما أخبروه شيئاً. «باسبور إيه وحاجِة إيه» لم يعد خائفاً من السفارة، رفع الأهل معنوياته. انتقلت عدوى الأمل إليه. وفي الواحدة فجراً خرج الديكتاتور من قصره. تجمع بعض شبان الحي في غرفته. بدا فخوراً بنفسه وهم فخورون به. يسألونه عن الجيش المصري وعن مصر. لم يتحدثوا قبلاً في أمور مشابهة. مصر قبل الجمعة غير مصر بعدها. وكان زين العابدين بن علي، التوأم التونسي لحسني مبارك، حاضراً، إذ توقع الجميع تكرار المشهد التونسي. خرجت عينا عبدو من وجهه في اللحظة التاريخية. بدأ يحدثهم عن الأحلام الممكنة في مصر، وعن عودته. كل شيء ممكن الآن. وبدأ الديكتاتور خطابه. استنفر عبدو: الله؟ هو في إيه؟ بيكدبو علينا في الجزيرة ولّا إيه؟ بدوا جميعهم مصريين. لم يستقل مبارك. وبكى عبدو أمامهم.
وفي شارع فرعي داخل الجميزة، يعمل في بناية قريبة أبو جمال. يحمل طفله بيد واحدة. يرفعه على ظهره فتتدلى رجلا الشقي فوق كتفي والده. فهم جمال الصغير أن والده يلاعبه، حين رفع له يديه، راسماً على يده شارة النصر. لا حاجة لسؤاله عن رأيه في الأحداث إذاً. هكذا، سار الرجل وابنه مزهوين، مرفوعي الرأس.
وعلى نقيض منه، هناك العامل الآخر، خالد، الذي لا يتحدث في السياسة. يفضل الحديث عن الأهلي والزمالك. صحيح أنه لا يجد من يناقشه في الفوارق بين زكريا أحمد ومحمد القصبجي، لكنه يتفق مع أصدقائه اللبنانيين على أن الست أولاً وأخيراً (أم كلثوم). لا يعطي رأيه في النظام ولا في سعد الحريري. «صعيدي ودماغي جامدة»، يمازحنا. يلين قليلاً حين تسأله عن أحوال أقاربه. بعد أخذٍ ورد، ولأنه المصري الوحيد الذي وجدناه في منطقة الأشرفية، يقبل أن يحدد موقفاً من النظام. لكن، بعيداً عن زملائه، لأنهم لن يفهموه. هل يخشى الاستخبارات المصرية هو الآخر؟ نسأله، فيضحك: «طز في الاستخبارات». تعال معايا. ح وَريك رأيي إيه. مشينا بخطوات متأنية إلى غرفة متواضعة تستكين في أطراف المبنى الأرستقراطي. استنى شويا. حَ جيبهالك مِ الدولاب. وعاد سريعاً بعدما أخرج من خزانته صورةً متوسطة الحجم بالأبيض والأسود. صورة فوتوغراقية قديمة لرجل ثلاثيني، بشاربين عريضين، وأنف كبير. يرتدي زياً عسكرياً صحراوياً غير مألوف اليوم. ضمها إلى صدره كطفلٍ في الأربعين. انعكست ملامحها في وجهه. ابتسم مثل صاحب الصورة. قطب حاجبيه مثله فهو بطله الوحيد. أنا ما شفتوش لسا لكنو دلِ وقت عاش. ربّتها بإصبعين بطيئتين. ضحك، لكنه كان على حافة البكاء. فقد كان ذلك والده الذي استشهد في 9 أكتوبر 1973.