هي المومياء نفسها. تنظر ولا ترى. تنصت ولا تسمع. تلمس ولا تحس. لا قلب ينبض ولا عروق ولا حياء. حسني مبارك لا يزال على جبروته. مومياء لا تزال تحسَب نفسها فرعون. ضعيف يدّعي القوة. منهار يوحي بالتماسك. الأرض تزلزل تحت قدميه ويمثّل دور الواقف منتصباً. يمارس الألاعيب نفسها.
حيل الحكام العرب نفسها. تلك التي اعتمدها زين العابدين بن علي ولم يفلح. استماتة للاحتفاظ بالكرسي حتى اللحظة الأخيرة. حتى الطائرة الأخيرة. حتى النفَس الأخير. هذا دأب الحكام العرب. لا تنحّي طوعياً في قاموسهم. الخروج من الحكم، بالنسبة إليهم، لا يكون إلّا إلى واحدة من وجهتين: إما القبر وإما المنفى.
هي المومياء نفسها منذ عقود. لكن الشعب المصري لم يعد هو نفسه. مصر الثورة استعادت روحها. استعادت حيويتها. استعادت شموخها. حطّمت الأصنام كلها التي تتحكم بحياتها منذ آلاف السنين. رمز الفرعون الإله. أسطورة الأمن الذي يتحكّم بالرقاب والعباد. رعب الأجهزة. القلق على المصير. انتفضت في وجه من «ضيّع البلد، روح الأمة وأعظم بلد في الدنيا». شعب كرامته مجروحة. جوع وقهر وحرمان. ذلٌّ وتبعية. مصر، تلك الدولة الإقليمية العظمى التي حكمت العالم العربي من المحيط إلى الخليج، تتلقّى الإهانات من صغار إسرائيل ولا تردّ.
مصر استعادت نفسها، ومبارك على حاله. خرح منتصف ليل أمس على شاشات التلفزة. بدا أنيقاً. يتحدث بالفصحى. يقرأ من ورقة وينظر إلى المشاهدين. مقدمة طويلة سعى في خلالها إلى التبرؤ من كل ما يحصل في مصر، بوصفه «الحكَم» بين السلطات. أكّد عزمه على المضيّ «بالإصلاحات السياسية والاقتصادية». لعب على وتر الوطنية المصري وعشق المصريين لبلادهم. سعى إلى تخويفهم من «مخطط لزعزعة الاستقرار والانقضاض على الشرعية». لمّح إلى «بطولاته» في أيام «السلم والحرب». أعاد عرض نفسه حامياً لمصر. تعهّد ألّا يتسرب «الخوف إلى نفوس مواطنينا». وأعلن استقالة الحكومة وتكليف أخرى يوم غد.
لم يكن واضحاً إن كان يضحك على نفسه أو على شعبه. ذاك الشعب الذي شاهد المشهد نفسه في تونس قبل أقلّ من شهر. كأن سيناريو زين العابدين بن علي يتكرّر هنا، مع فارقين: الأول أن الجيش التونسي لم يكن داعماً للرئيس الذي حيّده عن الحياة السياسية طوال فترة حكمه، فيما الثاني كون المجتمع المدني في مصر أكثر حيوية، بفعل التجربة التي خاضها منذ عام 2005 إلى اليوم. ومع ذلك فإن القاسم المشترك واحد. بلغت الأوضاع في مصر نقطة التحول نفسها التي مرّت بها تونس وفيها يصبح النظام أمام حلّين كلاهما مر: الإمعان في القمع سيدفع المتظاهرين إلى المزيد من الثورة انتقاماً. والبدء بالتنازلات سيشجع هؤلاء على المزيد من الانتفاضة لما يمثله ذلك من علامات ضعف للنظام.
يبدو أن حسني مبارك يفضّل الخيار الثاني. ولا شك في أن المصريين ماضون في ثورتهم. ما حصل يوم أمس أكبر دليل. لقد اكتشفوا في النهاية أن الأمر ممكن. التجربة التونسية خير شاهد. بل إن الأمر يستحق العناء. خبر مغادرة بن علي بالطائرة أثلج قلوب الملايين وداوى جروحهم.
وهنا لا بد من الإشارة إلى مجموعة من الملاحظات، في مقدمها طريقة إخراج ظهور مبارك: بعد أكثر من ساعة على إعلان التلفزيون المصري أن رئيس البرلمان المصري فتحي سرور سيصدر قريباً إعلاناً مهماً، في خطوة أوحت أن مبارك إما سيتنحى أو سيغادر البلاد، وأدّت دوراً في تهدئة الجماهير الغاضبة. وهناك التوقيت: بعد انتشار الجيش المصري في شوارع القاهرة وسيطرته على جميع المفاصل المهمة، خاصة في محيط البرلمان ومجلس الوزراء ومقر الإذاعة والتلفزيون. الملابسات: في ظل شائعات عن مغادرة شخصيات نافذة ورجال أعمال مصر على متن طائرات خاصة. في الخلفية: بعد يوم كامل ملأ الصخب فيه الشارع، واعتصم النظام المصري بالصمت في وقت كانت تصدر فيه البيانات والتصريحات بنحو متواصل من واشنطن، كأنها هي التي كانت تدير الدفّة في القاهرة.
كثافة حركة في واشنطن وتأكيدات لضرورة التزام الجيش المصري ضبط النفس والاستماع إلى مطالب المتظاهرين والاستجابة للإصلاحية منها مع تلويح بربط استجابة كهذه بالمساعدات الأميركية، كلها أوحت أن نهاية «جمعة الغضب» أمس إنما كانت وفق سيناريو أميركي، أو بالحد الأدنى تنسيق كامل مع العم سام، الذي أبقى توازن مواقفه بين دعمه لنظام مبارك وتأييده لمطالب المحتجين، وإن بدا أمس أكثر ميلاً للأخيرين:
الرئيس باراك أوباما يدلي بتصريح مقتضب، في أعقاب اتصال استمر نصف ساعة بمبارك أجراه بعد إلقاء الأخير كلمته. تأكيد من الرئيس الأميركي بالتزام واشنطن بمواقفها المعلنة. الجديد فيه تأكيده أن مبارك «تعهد بديموقراطية أفضل وبإصلاحات أفضل»، قبل أن يطلب منه، بلهجة آمرة، «خطوات ملموسة»، في ما بدا شرطاً لاستمرار الدعم الأميركي للنظام المصري.
وكان أوباما قد عقد في وقت سابق اجتماعاً استمر 40 دقيقة مع عدد من أعضاء فريقه لمناقشة أحداث العنف المتسارعة في مصر، وأمر بإبقائه على اطلاع على المستجدات. في خلال هذا الاجتماع، جرى الاتصال بالسفيرة الأميركية لدى مصر، مارغريت سكوبي، التي أطلعت القيادة الأميركية على رؤيتها للأوضاع في بلاد النيل. المتحدث باسم البيت الأبيض، تومي فيتور، يؤكد «وجود اتصالات يومية بين الحكومتين الأميركية والمصرية من خلال قنوات عدة». زميله، روبرت جينز، يهدّد بأن «الولايات المتحدة ستراجع سياسة المساعدات لمصر بناءً على الأحداث التي تقع هناك خلال الأيام المقبلة»، مشدداً على أن «القوى الأمنية والجيش يجب أن يُضبطا في كل ما يقومان به». نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة جيمس كارترايت، يدعو الجيش المصري إلى «ضبط النفس». السيناتور الأميركي جون كيري يرى أن «على مصر أن تختار قائداً جديداً لها عام 2011 عبر انتخابات حرة نزيهة وديموقراطية». نصيحة للرعايا الأميركيين بـ«تأجيل أي سفر غير ضروري» إلى مصر.... في ظل تعليمات من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى جميع الوزراء والمتحدثين الرسميين الإسرائيليين بعدم التحدث بشأن الوضع في مصر.
مهما يكن من أمر، فإن «الشعب يريد إسقاط النظام». «حسني مبارك يمشي». «مش عاوزينه. مش عاوزينه»... تلك كانت الشعارات التي ردّدها مئات آلاف المتظاهرين في طول البلاد وعرضها أمس. شبان وشابات تسلحوا بإرادة التغيير وخرجوا إلى الشوارع فارضين إيقاعهم الخاص، أمام عجز السلطات الأمنية عن ضبطهم على الرغم من نشر عناصر أمنية بلباس مدني لمواجهتهم قبل أن تضطر إلى الانسحاب وسط فراغ أمني غير مسبوق شهدته المحافظات على وقع انكفاء قيادات الحزب الحاكم.
من القاهرة إلى السويس ودمياط والإسماعيلية والمنصورية والمنيا ودمنهور والزقازيق وكفر الشيخ وكوم امبو وشمال سيناء... ومختلف المحافظات المصرية، المشهد واحد.
هتافات مندّدة بالنظام تطالب مبارك بالتنحي ومغادرة البلاد، وآلاف المحتجين حوّلوا مباني، لطالما مثلت بالنسبة إليهم مراكز للظلم، من مقارّ الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم، ومقارّ الشرطة التي اعتادوا تلقي الإهانات من ضباطها، والمحاكم، إلى شعلة ملتهبة من النيران في عشرات المحافظات، غير آبهين بالشرطة ورجالها الذين خرجوا لمطاردتهم، علماً بأن معلومات أفادت بأن قيادات من الحزب الوطني أمرت بإحراق مقارّه في القاهرة والمحافظات، بهدف إتلاف كل الوثائق التي تحتويها، وبأن الحرس الجمهوري وعناصر أمنية مندسة بين الجمهور هي من عملت على نشر الفوضى، قبل تدخل الجيش، على أمل تخويف الناس من تداعيات انهيار النظام.
تطوّرات أجبرت رئيس الأركان المصري الفريق سامي عنان على قطع زيارته للعاصمة الأميركية، التي كان مقرراً أن تستمر أسبوعاً، والعودة إلى القاهرة، حيث خلع العديد من العناصر الأمنية لباسها الرسمي خلال النهار وانضموا إلى المتظاهرين، ورفض البعض الآخر إطلاق الغازات المسيلة للدموع على الناس، الذين سقط منهم أمس أكثر من 16 قتيلاً و1030 جريحاً واعتُقل أكثر من ألف.
دماء أثبت التاريخ أنها الوقود الذي أشعل كل ثورات الأرض. هي إكسير الحياة. ثمن حرية الشعوب وكرامتها. حرية وكرامة ترنو إليهما الشعوب العربية كلها، من المحيط إلى الخليج.
لك الخلود يا محمد بوعزيزي. حروقك داوت جروح الملايين. وروحك أعادت الحياة لملايين آخرين.