الولايات المتحدة قلقة لأنّ أصدقاءها العرب خائفون ومترنحون. لقد أصبحت الجامعة العربية جامعة الرّجُل المريض، كما كانت الخلافة العثمانية في بداية القرن العشرين. فما الذي يمكن واشنطن أن تفعله؟ هي تعرف أن الشعوب العربية إذا وصلت إلى السلطة فستكون معادية للعمّ سام، إذ إن رأسمال الحقد على أميركا وسياساتها العدوانية
، أكبر وأوضح من أن يجري إخفاؤه أو تزويره. وها هي واشنطن تهرع لنجدة الديكتاتوريات العربية. وإذا كانت الولايات المتحدة قد اكتسبت قوتها العسكرية من قدرتها على خوض حروب عديدة في نفس الوقت، فهي تحاول الشيء ذاته على المستوى السياسي والدبلوماسي.
كل أصدقاء أميركا العرب في خطر. ولعل النظام الأردني المريض بفقره وتعدد حكوماته وتخبط سياساته واشتداد معارضاته (من إسلامية وقومية وشعبية)، هو الأقرب إلى الانهيار، ولعل أيضاً تشدّد اليمين الصهيوني الحاكم المطالب بالأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين يعقّد الأمور، كما أن المفاوضين الفلسطينيين، وعلى رأسهم صائب عريقات (كبير المفاوضين، كما يحلو له أن يقدم نفسه!)، لا يفوّت فرصة من أجل حرمان الدولة الهاشمية أيّ دور لها في فلسطين. ومع ذلك تعرف أميركا الدور المهمّ للأردن، وتتحرك باتجاه تحمّل أعباء الاقتصاد الأردني، ومنع ثورة الجياع (منعها، إلى حين). لقد حاولت أميركا حث أصدقائها من جيران الأردن الأغنياء على مساعدته فرفضوا بأدب. وانحصرت مساعدتهم في صدقات تستولي عليها ماكينة البيروقراطية (كما هو الشأن في الدول العربية الأخرى) الرهيبة في الأردن، ولا تصل إلى الشعب الأردني.
جيفري فيلتمان، مساعد هيلاري، زار تونس من أجل إعادة بث الحياة في تيار الماضي (الأكيد أن الغرب، وأميركا على رأسه، يبحث عن تابعين سابقين ومنحهم عذرية جديدة كالهادي البكوش، مهندس وصول بن علي).
من أكبر «إنجازات» أميركا في منطقتنا العربية، تحييد دور مصر وإخراجها من الصراع العربي الصهيوني، ولعل مقولة السادات الشهيرة، منتقداً العرب الذين انتقدوا اتفاقاته المذلة مع إسرائيل: «مصر أدت اللي عليها»، قالها وهو يَمُنّ على العرب الآخرين، لا تزال معاصرة، فكل الدبلوماسيين المصريين يكرّرونها. لقد انتهت بالفعل، لدى الطبقة السياسيّة الحاكمة في مصر، المقولة الناصرية عن كون فلسطين قضية وطنية مصرية. والمشاهد العربي الذي تتبّع محرقة إسرائيل ضد شعب فلسطين في غزة، ورأى التنسيق المصري الإسرائيلي وتشديد الحدود وتدمير الأنفاق ثم بناء جدار، أدرك وجود البنود السرية في اتفاقيات كامب دافيد.
وبالفعل يستحق نظام مصر حماية أميركا وقلقها ونصيحتها، قبل فوان الأوان. البيت الأبيض يراقب الأوضاع في مصر، ولا يتوقف عن نصحه بالانفتاح على معارضته، قبل فوات الأوان. وقد جاءت التظاهرات المصرية السلمية الكبيرة، التي قمعتها شرطة مبارك بطريقة عنيفة يشهد عليها تدفق الموتى والجرحى والمعتقلين، لتؤكد هشاشة النظام المصري، ولتعطي الدليل على أنّ مرض النظام ومرض الرئيس معاً، لا يمكن أن يغطي عليه القمع البوليسي ولا الهروب إلى الأمام.
النظام اليمني افتضح. وظهرت الشعارات التي كان إعلام نظام علي صالح يتشدّق بها عن الحرية والسيادة والوحدة. وفضحت وثائق وبرقيات ويكيليكس كيف أنّ القوات والطائرات الأميركية تضرب في اليمن، ما تشاء وأينما تشاء، ويسارع الرئيس إلى التصريح بمسؤوليته عنها، وإلى الكذب على الشعب بنفي أيّ وجود للجيش والاستخبارات الأميركية في اليمن.
لا تريد أميركا خسران اليمن ودوره الاستراتيجي في مواجهة «الخطر» الإيراني على إسرائيل. ومثلما تفعل مع مصر، فهي لا تتوقف عن تقديم النصائح إلى الحكم اليمني، وعن المراقبة الدقيقة للتطورات في الجنوب والشمال. ومن هنا كانت زيارة هيلاري (أول زيارة مهمّة لمسؤول أميركي كبير لليمن) التي تخللتها لقاءات مع المعارضة لترويضها، في أفق تقاسم للسلطة لا يخسر فيه علي صالح الشيء الكثير.
الشرق الأوسط الكبير يبدو كأنه يصنع نفسه بآليات جديدة هي الثورات الشعبية، لكن هذه الثورات لن تُتْرَك لحالها. فأميركا تعرف كيف تختار عملاءها، بل كيف تغير عقولهم. ألم يكن محمد دحلان من زعماء الانتفاضة الفلسطينية الأولى؟ ألم يكن السادات نائباً لزعيم نظيف اسمه جمال عبد الناصر؟ يقول الروائي جورج أورويل في روايته «مزرعة الحيوانات»: «كل الحيوانات متساوية لكن بعضها أكثر مساواةً من الآخر!»، لسان حال واشنطن لتنصيب العملاء: «كل القادة العرب، الذين كانوا والذين سيأتون، موالون لنا، لكن بعضهم أكثر موالاة من الآخر!».
الخوف من التحريف ومن سرقة الثورات شرعي. فقد خابت كثيرٌ من الآمال ومن الوعود. ولعل السبب المركزي في الخوف، يتجلى في غياب الناطق الشرعي باسم هذه الثورات. الخشية في تونس أن يأتي شخص يعيد إنتاج النظام السابق، مع بعض التفصيلات الصغيرة، التي تأخذ بعين الاعتبار تطور الميديا والإنترنت. وحتى في مصر، وعلى افتراض مجيء محمد البرادعي، فهل هو الشخص الذي تستحقه مصر؟ وحتى في اليمن، هل يستطيع شخص في كل الفسيفساء اليمنية أن يخرج ويعيد إلى اليمن «سعادته»، التي تغنّت بها الركبان يوماً.