"ألو سامعني…""سحر... السلام عليكم... سحر... ألو..."
"أنا سامعيتك..."
بعد أكثر من محاولة للاتصال بمؤمن عبر الفيس بوك، والتانغو، والعودة أخيراً الى الاتصال عبر الفيس بوك، استطعت أن أسمع للمرة الاولى لهجة مؤمن فايز الغزاوية.
نحمد الله على نعمة الانترنت والتكنولوجيا التي قرّبت المسافات بيننا نحن اللاجئين والمحاصرين. وأحمد الله على كاميرا هاتف مؤمن وخدمة الـ4G التي عرّفتني على مزرعة للفراولة على حدود القطاع المحاصر. يعزمني افتراضياً على فراولة "أورغانيك"، لم تمسسها الادوية المسرطنة، "حلوة زي القطر"، يلفظ القاف كما تلفظ باللهجة الغزاية والبدوية. أخبره عن تخصيص صفحة مخيمات هذا الاسبوع للصحافيين الفلسطينيين في الداخل، ويخبرني عن الاصدقاء الصحافيين المشتركين بيننا. مجدداً شكراً للسوشال ميديا التي أغلقت الفجوات وأوصلت بعضنا ببعض.
أصبح المصور الصحافي مؤمن فايز من أيقونات الصحافة الفلسطينية، وأصبح نموذجاً لمعاناة الصحافيين في غزة بشكل عام، وللصحافيين المصابين جراء الاعتداءات الاسرائيلية بشكل خاص. ابن 28 عاماً فقد قدميه في خلال العدوان الاسرائيلي على غزة عام 2008 ــ 2009، ومع ذلك فهو دائماً موجود في الصفوف الامامية لتغطية الأخبار بحلوها ومرّها. يتحدث مؤمن عن إصراره على العودة الى عمله الصحافي، رغم إدراكه للصعوبات التي ستواجهه. فأولى الصعاب تمثلت في نظرات الاستغراب، أو حتى الرفض، من بعض زملائه، بعد أن بدأ العمل على كرسيه المتحرك. ولكن الآن، كما يقول، فإنهم يساعدونه متى استدعت الحاجة.
خلال تغطيته للعدوان الاسرائيلي عام 2012 شكّل كرسيه المتحرك صعوبة أمام تنقله بين الردم والبيوت المهدمة، فاضطر الى اعتلاء الاسطح عسى أن تسعفه عدسته. وكان في تنقلاته يعتمد على غيره، الى أن قرر أخيراً قيادة سيارته الخاصة.
سيارته الجديدة كانت السبب أمام تطاول أحد عناصر الشرطة عليه. يومها توجه مؤمن لتغطية التظاهرات التي دعا إليها ائتلاف شباب الانتفاضة على حدود غزة قبل ثلاث سنوات تقريباً. أراد الاقتراب الى جانب سيارات زملائه، لكن الشرطي منعه. وعندما سأله مؤمن عن السبب وشرح له وضعه، أجابه الشرطي "إذا إسرائيل عملت لك بتر، أنا بقدر أن أجهز عليك". طبعاً الإهانة لم تمر مرور الكرام عند مؤمن الذي يؤكد أنه لم ولن يسكت عن حقه أبداً. وقتها قامت ضجة في غزة حول الموضوع، وفتح الحديث حول التضييقات التي يتعرض لها الصحافيون. وقفات احتجاجية وتضامنية مع مؤمن وباقي زملائه، وشكوى قدمت الى وزارة الاعلام في غزة، وأخرى إلى المؤسسات الحقوقية، دفعت بوزير الاعلام حينها إيهاب غصين الى تدارك المشكلة. وتم تحويل عناصر الشرطة الى التحقيق وخفض رتبهم العسكرية بعد ثبوت خطئهم. "إسماعيل هنية، كان رئيس الوزراء يومها، زارني في البيت لتقديم الاعتذار"، يؤكد مؤمن أنه بالقانون والتوثيق يمكن لأي كان أن يأخذ حقه، خصوصاً إذا استطاع تحويل قضيته الى قضية رأي عام.
وبالحديث عن التوثيق، استطاع مؤمن أن ينقل حياته الخاصة الى الحيز العام من خلال هاشتاغ #يوميات_مؤمن، واستطاع أن يسخّر وسائط الاعلام الاجتماعي للإضاءة على الحياة اليومية للناس في غزة. "صوري هي توثيق لحياتي، هي مرجع أرشيفي الي... أرشيف صوري ممكن يروح... بيتي انقصف ويمكن يرجع ينقصف". نرى مؤمن في يومياته مع بناته الثلاث، وعلى البحر، ونراه يرسم لوحات وجداريات. يرينا من خلال الصور والفيديوات صلاة العيد في الكنائس والجوامع، النادي الرياضي، السيارات والشوارع، الحصان الراقص في أحد الاعراس، المنسف والمشاوي، وأكيد سمك بحر غزة... نتعرف الى الاصدقاء والامهات والباعة والاطفال.
ولأن الحروب الاسرائيلية على غزة كالمسلسلات الأليمة التي لا تنتهي، عاد مؤمن الى ميدان الحرب بكاميرته خلال العدوان الاخير عام 2014. خلال أول أسبوعين لم يكن لديه مشكلة كبيرة في التنقل على الارض لتوثيق الجرائم الاسرائيلية في مدينة غزة والمنطقة الشمالية والوسطى. لكن مع اشتداد القصف والاعتداءات، اضطر إلى العودة لاستخدام الدراجة النارية للتنقل. منزله كباقي بيوت حي الشجاعية تعرض للقصف، فقد ما فقد، لكنه بقي على الارض بدعم زوجته الصحافية.
تعرّف مؤمن الى زوجته خلال علاجه في العاصمة السعودية عام 2009. بعد إصابته بالقصف الاسرائيلي، قدم له الملك السعودي الراحل عبدالله منحة للعلاج. آلاف المتضامنين العرب أتوا لزيارة الجرحى، ومع انتهاء الاعمال العدوانية تراجع عدد هؤلاء. "ربطتني صداقات بكثير من الفلسطينيين في السعودية، وأيضاً بلبنانيين أتوا لزيارتنا"، يقول مؤمن إن علاقة صداقة نمت بينه وبين شقيق زوجته حينها. بعد أن أجرت معه مقابلة لمجلة "العودة"، لفتت انتباهه وأعجبته، ورأى فيها امرأة قادرة على تحمل الحياة الصعبة معه، ومشاركته شغفه بالتصوير. تقدم لها، وأخبرها عن صعوبة الحياة في غزة، "فهناك حصار، والموت ممكن في أي وقت، ولا يوجد مطاعم كالتي تعودت عليها في السعودية، ولا حتى الرخاء..."، لكنها قبلت، وأهلها سهّلوا الزواج لتعود معه الى موطنها الاصلي غزة. اضطر مؤمن إلى دفع مبلغ كبير للجانب المصري ليسمحوا لزوجته بالدخول معه الى غزة، كونها تحمل الوثيقة المصرية الخاصة باللاجئين. ولكنها أصبحت الآن غير قادرة على المغادرة، ليس فقط بسبب إغلاق المعبر، بل أيضاً بسبب عدم تمكّنها من تجديد جواز سفرها الصادر عن السلطات المصرية، وإيقاف الجانب الاسرائيلي لمعاملات لمّ الشمل للعائلات الفلسطينية.
يتحدث مؤمن عن رغبته في مغادرة قطاع غزة، "أينما ذهبت مصيري أن أعود الى بلدي ومسقط رأسي غزة". يفكر في إنشاء عمل دولي، فالتجارب في القطاع محبطة. طرح قبل سنوات فكرة إنشاء مؤسسة إعلامية توظف جرحى الحرب وتدمجهم في المجتمع، لكنها لم تجد آذاناً صاغية. والآن بعد ثماني سنوات يخرج مؤتمر بتوصيات لإنشاء مؤسسة كهذه، ويشير مؤمن الى أن المؤتمر لم يشارك فيه أي جريح. ولكن ماذا عن قدرته على مغادرة غزة؟ يخبرني عن إمكانية الحصول على فيزا، لكن المشكلة تكمن في المعبر، "بتاخدي فيزا ع شهر، والمعبر بفتح كل تلات أشهر مرة... إنتي وحظك". أراد القدوم الى لبنان، وفعلاً حصل على الفيزا، لكن المعبر لم يفتح. ومجدداً حصل على الفيزا الايطالية واستعدّ للذهاب لافتتاح معرض له هناك، وانتظر المعبر، وتأجل الافتتاح أكثر من مرة، ليتأكد الموعد في شباط من العام الحالي. الفيزا موجودة والمعبر مفتوح، لكن الجانب المصري رفض مروره بسبب ستاتوس "وابقى خلّي الفيس بوك ينفعك". عاد الى غزة وشارك في افتتاح معرضه من خلال كلمة مسجلة.
ينتهي لقاؤنا الفيس بوكي. مؤمن لا يزال يأكل الفراولة داخل سيارته في المزرعة على حدود غزة، وأنا أشرب قهوتي في بيتي في بيروت. نتفق على أن نبقى على تواصل، ويعدني بعلبة فراولة "أورغانيك" خلال زيارته المقبلة لبيروت، وأؤكد له أننا سنلتقي يوماً في فلسطين.