تضعنا الطريقة التي طالب بها المعارض كمال اللبواني بمحاكمة السيد معاذ الخطيب أمام واقع مرّ، يكاد السوريون لا يصدقونه، وهم الذين دفعوا على مدى سنتين آلاف الشهداء والمعتقلين في سبيل تغييره وانتزاعه من براثن سلطة لم تعترف بحقهم في الحياة والحرية حتى اللحظة، ليفاجأوا بمعارضة لا تعدهم إلا بما ثاروا ضده! التشابه يصل حدّ السخرية والمهزلة المرة، إذ لسنا هنا أمام لغة مشابهة، بل أمام لغة مطابقة رغم ما بين التشابه والانطباق من حدود ضيقة جداً، حيث طالب اللبواني بمحاكمة الخطيب استناداً إلى المادة 286 من قانون العقوبات، التي تنصّ على اعتقال «من قام في سوريا في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها بدعوات ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية عوقب بالاعتقال الموقت»، وهي التهمة التي «قرفها» المواطنون السوريون طيلة عقود وثاروا ضدها. الأمر لم يقتصر على اللبواني وحده، بل إن التدقيق في الخطاب السياسي السوري المعارض ومفرداته على مستوى النخبة سيقودنا إلى رؤية أن ثمة ثقافة عميقة تنتج هذا الوعي السطحي الذي يتحكم في ممارسة السياسة بوصفها معادلاً للقوة والتخوين والتمكن من إلحاق الأذى بالآخر بعيداً عن أية قوانين ضابطة إلا بما يحفظ السلطة. ففي معرض رد الناطق باسم «الاخوان» زهير سالم على البيانات التي أطلقت ضد تفردهم بالائتلاف وفرضهم حكومة هيتو يقول: «وحين يتأمل المرء التوقيت الحرج الذي صدر فيه هذا الإعلان المريب لن يستغرب أن يكون وراء من دسه على أصحابه، أو من أوحى به إليهم، من بعض الذين لا يزالون يتغلغلون هنا وهناك من رجال بشار الأسد أو من أتباع الولي الفقيه، في مشهد شديد التعقيد طالما اختلطت أوراقه»، لنكون أمام لغة تستمد مفرداتها من قاموس البعث الذي خبره السوريون على مدى عقود، وعرفوا لغته المتهربة من مواجهة استحقاقاتها تجاه مجتمعها برمي التهم على الآخر/ العدو تحت ذريعة «لا صوت يعلو على صوت المعركة» عبر اتهام كل من يخالف هذه الرؤية بالعمالة للخارج وتلقي أموال من الإمبريالية والصهيونية العالميتين وبندر والحريري... وهو خطاب لم يزل قائماً حتى اللحظة!
وهنا لا يفعل الخطاب «الإخواني» تحديداً، وجزء من خطاب المعارضة الخارجية أيضاً إلا بإعادة إنتاج هذه اللغة برمي كل شيء على النظام وعملائه، فمفردات مثل «مخطط فاشل وسخيف لعرقلة مسار الثورة» ومن «يتواطأ مع هذا المخطّط فسيكون عليه علامة استفهام حول مواقفه البعيدة عن التحالف الوطني» (المقصود بالمخطط من ينتقد الإخوان!) إذ يقول محمد رياض الشقفة حرفياً إن من يهاجم إخوان سوريا «ليس من الشخصيات الثورية أو من قيادات المعارضة صاحبة الوزن الحقيقي على الأرض». وتصل الجماعة، في بيان لها، حد إضفاء العصمة على ذاتها (كالبعث تماما): «طوال العهد الوطني كانت جماعتنا شريكاً وطنياً إيجابياً فعالاً. لم يسجّلْ عليها في تاريخها الناصع ضلوعاً في مؤامرة، ولا تواطؤاً مع مستبد، ولا تحريضاً على فتنة، ولا استئثاراً بموقع، ولا تهمة واحدة مما يلصقه بها اليوم هؤلاء الخرّاصون المتقوّلون»، رغم أن كلامهم نفسه هو تهم وتخوين للآخرين، ورغم أن بياناتهم واضحة حين دخلوا في حوار مع المستبد في محطات معروفة كان آخرها حين علقوا معارضتهم للنظام تحت ستار الممانعة عام 2009!
ما سبق عينات قليلة من اللغة التي تعكس التفكير السائد في صفوف أطراف المعارضة تلك، وهي لغة لا تختلف بتاتاً عن لغة النظام وتفكيره، وتصل إلى السلوك أيضاً، فضرب القيادي المعتقل عبد العزيز الخير وزملائه في القاهرة، واعتقالات «النصرة» والمحاكم الشرعية ضد الناشطين المدنيين في الشمال السوري عينة عن ذلك، فضلاً عن لغة التخوين المكثفة لهيئة التنسيق والتيارات الوطنية في الداخل (رغم ما يشوب تلك التيارات من ضعف وترهل) وهي أمر ممنهج إعلامياً مما يجعلنا ندرجها ضمن إطار السلوك الناتج عن تلك الثقافة، لأن التحليل الأعمق للمعارضة سيقودنا إلى أزمة المعارضة السورية التي لم تتمكن من بلورة خطاب جامع ليس طيلة سنتي الانتفاضة فحسب، بل منذ حصل الانشقاق في إعلان دمشق، إذ لم يسعَ أحد للمراجعة والبحث في الجذور الثقافية/ السياسية للمعارضة التي تحكم هذا الشقاق، وبالتالي البحث عن حل له، وهو ما يتكرر اليوم، إذ ليس للمعارضة سوى شعارات سياسوية جوفاء تتمثل في إسقاط النظام كيفما اتفق، بعيداً عن رؤية البديل والعمل على صناعته عبر مشروع وطني يعمل على القاع المجتمعي الذي دمرته السلطة عبر عقود من جهة، وعلى البنى السياسية الاقتصادية القانونية في سوريا المستقبل من جهة ثانية، إذ يغدو كل شيء ضبابياً وسياسوياً بالمعنى الضيق الذي يستهدف الوصول إلى السلطة فحسب، مما مثل فراغاً تملأه السلطة والنصرة والعسكرة والخارج حتى هذه اللحظة، فيما تبدو كل التيارات السياسية المعارضة ملحقة بما سبق، إلى درجة الاستجداء بعيداً عن مشروع متجذر في الأرض قادر على البناء وسط هذا الحطام.
* كاتب وشاعر سوري