يدركون في إسرائيل أن استمرار الحصار والضغط الاقتصادي على قطاع غزة، يساهم في رفع احتمالات نشوب مواجهة واسعة قد لا يريدها الطرفان ابتداء في المرحلة الحالية. ويسلمون بحقيقة أن ما يحكى عن قدرة ردع إسرائيلية تبقى محدودة التأثير ما دام لا يوجد لدى الإنسان الفلسطيني في القطاع ما يخسره، فضلاً عن أن هذا الواقع يشكل حافزاً إضافياً لفصائل المقاومة التي إذا قدرت بأن الآفاق باتت مسدودة لجهة تغيير الواقع في القطاع، فقد لا تتردد في تكرار اللجوء إلى أسلوب الضغط العسكري.على خط مواز، تعزز المفاوضات الإسرائيلية ــ التركية سيناريو الدفع نحو اجتراح حل ما يخفف من وقع المعاناة في القطاع، بهدف قطع الطريق على المواجهة المقبلة، ومن جهة أخرى يساهم ذلك في إيجاد مخرج للتركي الذي يحتاج إلى إنجاز ما يبرر إعادة انفتاحه على الإسرائيلي الذي بات أكثر من ضروري بالنسبة إلى كليهما، على ضوء التطورات التي تشهدها المنطقة عموماً، والساحة السورية بخاصة.
القراءة الإسرائيلية للواقع في غزة عبّر عنها رئيس شعبة «الاستخبارات العسكرية (أمان)»، اللواء هرتسي هليفي، خلال المداولات التي جرت في «لجنة الخارجية والأمن» التابعة للكنيست، مشيراً إلى أن الأوضاع الاقتصادية المتردية في غزة قد تقود إلى انفجار الأوضاع في وجه إسرائيل. ونقل أعضاء كنيست، من الذين حضروا المداولات، أن هليفي أوضح أن عمليات إعادة إعمار ما دمرته الحرب الأخيرة في غزة تبدو بطيئة جداً، وفي ما يتعلق بما يجب فعله إسرائيلياً، نقلت المصادر نفسها عن رئيس الاستخبارات قوله إن تحسين الأوضاع الاقتصادية في غزة من شأنه أن يمنع اندلاع أي حرب مستقبلية أخرى مع إسرائيل.
وعلى وقع المخاوف الإسرائيلية من جولة مقبلة مع المقاومة، جدد المستوى السياسي والعسكري في إسرائيل المداولات في الأسابيع الأخيرة بشأن تحديد الموقف الإسرائيلي من إمكانية إقامة ميناء بحري في غزة، والبحث عن حلول أساسية طويلة الأمد، من شأنها أن تساعد في تحسين الوضع الاقتصادي في القطاع، وتقليل مخاطر اندلاع مواجهة جديدة بين الجيش الإسرائيلي وحركة «حماس».
ويجري في إسرائيل تداول خمسة اقتراحات: إقامة ميناء بحري داخل الأراضي المصرية في منطقة العريش، وبناء ميناء على جزيرة اصطناعية أمام بحر غزة، وبناء ميناء على شواطئ غزة، وحتى بناء مخازن لاستقبال البضائع من غزة وإليها عبر قبرص، أو إسرائيل في ميناء «أشدود».
في هذا المجال، يدعم كبار قادة الجيش الإسرائيلي مبدئياً إقامة ميناء في غزة، وخاصة إذا كان بالإمكان ربط ذلك بإلزام «حماس» باتفاق بعيد المدى لوقف إطلاق النار. ويوصي بعض الوزراء في الحكومة الإسرائيلية بأن تتجند إسرائيل من أجل إنجاح المشروع، ولكن احتمالات الموافقة على ذلك لا تبدو في الأفق، وخاصة على خلفية معارضة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن، موشيه يعالون، لهذه الخطوة.
ويشير مؤيدو إقامة الميناء البحري في غزة أو مقابل شواطئ القطاع إلى سلسلة من المزايا الكامنة في مثل هذا المشروع. ويستند هؤلاء إلى أن مثل هذا الميناء يحسن الحياة الاقتصادية في غزة كثيراً، ويوفر لأهالي القطاع آلاف فرص العمل. في موازاة ذلك، فإن من شأنه أن يدفع «حماس» إلى استيعاب «ثمن الخسارة» التي قد تلحق بالحركة على المدى البعيد، وذلك بسبب وجود اتفاق وقف إطلاق نار بعيد المدى مع إسرائيل، وأن من شأن ذلك أن يدفع المشروع إلى الأمام.
ووفق مصادر إسرائيلية، فإن إنجاز مشروع الميناء في غزة من شأنه أن يبدو كمبادرة إسرائيلية في الساحة الفلسطينية، بعد سنوات من الجمود السياسي مع الفلسطينيين، وبعد انتقادات غربية شديدة لإسرائيل. وطبقاً لتقديرات مؤيدي المشروع أيضاً، يصير من الممكن بلورة حل لموضوع الفحص الأمني للبضائع التي ستصل إلى غزة، بطريقة تمنع «حماس» من تهريب أسلحة متطورة إلى داخل القطاع.
في المقابل، يشير معارضو الخطة أولاً إلى المخاطر الأمنية الكامنة في أي خطوة من هذا القبيل على إسرائيل. ويقولون إن الاستغناء عن موضوع الفحص الأمني للبضائع الفلسطينية، لمصلحة جهات غربية وأجنبية، من شأنه أن يكلف إسرائيل ثمناً كبيراً، وأنه في الحالات السابقة التي نقلت فيها صلاحيات التفتيش الأمني لجهة ثالثة، فإن ذلك قد فشل فشلاً ذريعاً.
وتعيد إسرائيل إلى الواجهة نشر مراقبين دوليين في معبر رفح بعد خطة الانفصال عن قطاع غزة عام 2005، حينما نشرت قوة دولية أوروبية لمراقبة المعبر، لكنها غادرت مواقعها بعدما سيطرت «حماس» على غزة، وطردت مسؤولي الأمن التابعين لحركة «فتح» عن المعبر عام 2007.
ويعتقد موشيه يعلون أنه لا يمكن وضع حراس أمن إسرائيليين في مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية، وأن تسليم موضوع الأمن في الميناء لجهات دولية من شأنه أن يساهم في تهريب السلاح إلى غزة. وأعرب يعلون عن موافقته على دراسة اقتراحين بديلين، وتدور شكوك حول موافقة «حماس» عليهما: فتح رصيف للبضائع الفلسطينية في ميناء «أشدود» بإشراف إسرائيلي، أو إقامة ميناء في العريش داخل مصر، حيث يفحص المصريون البضائع أولاً، ثم نقلها إلى منطقة «نيتسانا»، وإدخالها إلى غزة من خلال معبر «كرم أبو سالم» بعد فحصها مرة ثانية إسرائيلياً.
كذلك توجد مشكلات أخرى لم يتم تلقي إجابات عنها؛ من بينها أنه لا يعرف هل ستوافق «حماس» على حلول كهذه بعيداً عن إدارتها وسيطرتها أمام شواطئ غزة... كما من المتوقع أن يواجه الموضوع صعوبات بسبب موقف السلطة الفلسطينية.