للمرة الثانية خلال أيام، يشهد قطاع غزة اعتداءات إسرائيلية واضحة، والسبب أن قوة عسكرية تابعة لجيش العدو كانت تؤمن عمليات صيانة للسياج الفاصل مع القطاع، تعرضت، يوم أمس، لنيران قناص فلسطيني قرب منطقة كيسوفيم (جنوب) أدت إلى إصابة أحد الجنود بجراح خطيرة. ووفق الرواية الإسرائيلية نفسها، فقد أعقب الحادثة ردّ إسرائيلي أدى إلى استشهاد أحد عناصر الاستطلاع في كتائب القسام (حركة حماس)، وما لبثت الحركة أن حذرت من تكرار «هذه الحماقات»، ودعت إلى اجتماع للفصائل من أجل تباحث الموقف.
تكرار الحوادث الأمنية مع غزة يعيد طرح التساؤلات عن السياقات التي تندرج ضمنها، ومدى علاقتها بالظرف السياسي الداخلي الإسرائيلي، وأيضاً بواقع المعاناة في غزة، التي يظهر أن هناك محاولة لتكريسها، بل تحويلها إلى مادة ابتزاز للمقاومة.
نتنياهو أمام خيارين
صعبين إما تكرار ردود جرّبها أو الضعف أمام خصومه

ما يميز العمليات الفلسطينية والاعتداءات الإسرائيلية، على حدّ سواء، أنها تجري، حتى الآن، ضمن وتيرة منخفضة. ففي المرة الأولى عثر على بقايا صاروخ في جنوبي الأراضي المحتلة، وانحصر الرد الإسرائيلي باستهداف مواقع في غزة من دون سقوط خسائر بشرية. لكن موقف أمس كان تصاعدياً. وليس من باب المصادفة أن يكون تبادل النيران ضمن هذا السقف فقط (قنص مقابل قصف عشوائي)، بل يعود هذا إلى عوامل مؤثرة في قرار الطرفين. فمن الجهة الفلسطينية لا يريد أحد في هذه المرحلة الذهاب نحو مواجهة واسعة، لكن يصعب، في الوقت نفسه، على المقاومة التسليم بتكريس الوضع القائم، وابتزازها به.
بين هذين الحدّين، قد تكون الحوادث الأمنية محددة الأهداف، ويمكن وضعها ضمن إطار الضغط العسكري المضبوط من أجل تحريك مسار إعادة الإعمار. وفي كلتا الحالتين، يبدو أن الرهان الفلسطيني هو ألا تؤدي هذه الحوادث إلى انفجار واسع، ما يعني أن هذه العمليات هي أقرب إلى الرسائل.
وبرغم أن العمليات المتقطعة تشكل عامل ضغط على الواقع الإسرائيلي في كل الظروف، فإن الحملة الانتخابية التي تشهدها إسرائيل تضاعف مفاعيل هذه الضربات المحدودة في الساحة السياسية الداخلية. ومن الممكن أن يكون هذا الاعتبار حاضراً لدى الأطراف الفلسطينية التي قد ترى في هذا الظرف الداخلي مناسبة لمحاولة التأثير في القرار الإسرائيلي، أو الإقليمي، المتصل بمواصلة الحصار على القطاع، باعتبار أنها عمليات تعزز مقولة إخفاق أهداف الحرب الأخيرة إسرائيلياً.
في المقابل، يقف الإسرائيلي في مواجهة هذه الحوادث بين عاملين يضبطان حركته في المبادرة والرد، فهو لا يريد استدراجه إلى مواجهة واسعة يدرك أنه لن يستطيع أن يحقق فيها أكثر ممّا جناه من معركة استمرت أكثر من سبعة أسابيع، كذلك سيجد رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، نفسه، في حال تدحرجت الأمور نحو مواجهة واسعة، أمام خيارين: إما تكرار ما جرَّبه سابقاً، وهو أمر سيسجل عليه في كل المستويات، وإما الذهاب نحو خيارات أكثر دراماتيكية لا تتلاءم والرؤية الاستراتيجية له في هذه المرحلة.
رغم ذلك، لا يستطيع نتنياهو تجاوز هذه العمليات، وإن كانت متقطعة ومحدودة، لأسباب ردعية وسياسية، إذ تدرك القيادتان السياسية والعسكرية في تل أبيب أن عدم الرد ينطوي على رسالة ضعف قد تدفع إلى تشجيع الطرف المقابل على تكثيف الضربات، وهي أيضاً رسالة ضعف سياسية داخلية لخصوم نتنياهو ومنافسيه. من هنا، يمكن فهم خيارات الأخير العملانية، وتقديم نفسه على أنه «القيادي الحازم» في ما يتعلق بالأمن الإسرائيلي، وإفهام الطرف الفلسطيني أن هناك أثماناً مؤلمة قد تردعه. في الخلاصة، يبدو أن الطرفين يسيران على حافة الانزلاق، مع سعي كل منهما إلى ألا يتدحرج نحو مواجهة واسعة، وأملهما أن يحقق هذا القدر، من الضغط العسكري المحدود، أهدافهما. لكنهما لا ينسيان الخطوط الحمر التي في حال تجاوزها طرف ما، سيجد الآخر نفسه مضطراً إلى التصعيد. وأكثر ما ينطبق هذا على نتنياهو نفسه، الذي إذا اكتشف أن مساره انحداري بمستوى يهدد مستقبله في رئاسة الحكومة، فإنه قد يتجه إلى اعتداءات واسعة على الساحة الفلسطينية، وتحديداً كأنه في موقع الرد والدفاع، علماً بأنه لم يخسر المشروعية الداخلية لهذا النوع من الخيارات كلياً.
يمكن تلمّس كل ذلك في تصريحات نتنياهو الذي قال أمس: «سنرد بقوة في كل محاولة لخرق الهدوء الذي تحقق في الجنوب بعد عملية الجرف الصامد». كذلك حذّر وزير الشؤون الاستخبارية، يوفال شطاينتيس، من أن إسرائيل قد تشن حملة واسعة في غزة «لدكّ البنية العسكرية والمؤسساتية لحماس»، وأيضاً هدّد رئيس أركان الجيش، بني غانتس، بأن «إسرائيل لن تمر مرور الكرام على إصابة جندي بجروح خطيرة».
أما المقاومة الفلسطينية، فأثبتت منذ المعركة الأخيرة أنها تملك من الأوراق ما قد يفاجئ العدو، ويكون له مفاعيله النفسية والسياسية، وهذا حاضر بقوة أمام صانع القرار في إسرائيل.