لا شك في أن الأحداث الأخيرة التي وقعت في السعودية تُعدّ من أهم التحولات في الشرق الأوسط هذه الأيام. محاولة اغتيال أمير المنطقة الشرقية، سعود بن نايف بن عبدالعزيز، إطلاق النيران على إحدى محطات البنزين في الرياض والذي أدى إلى مقتل أميركيين، تشكيل وحدة خاصة لحماية المرافق والمنشآت النفطية في المنطقة الشرقية، والتي تتكون من ثلاث وحدات (وحدة الحماية البحرية، وحدة الحماية المحمولة، ووحدة الحماية الساحلية)، إضافة إلى ما حدث أخيراً من إطلاق الرصاص على بعض أهالي منطقة الإحساء.


في أعقاب تلك الأحداث، وصفت وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية ما حدث بالـ«العمليات الإرهابية»، وشنّت كذلك حملات إعلامية واسعة النطاق تفيد بكون السعودية تواجه خطر الجماعات الإرهابية، وأن تنظيم «القاعدة» قد تسلل أيضاً إلى أراضي هذا البلد.
السؤال هنا هو: هل تعرضت السعودية حقاً لأضرار من قبل هذه الجماعة؟ ومن هم المستفيدون من تنفيذ مثل هذه العمليات؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، يجب أولاً أن نلقي نظرة على السياسة الخارجية للسعودية.
لا يخفى على أحد أن السعودية وجهاز استخباراتها برئاسة بندر بن سلطان قد تعاونا في السنوات الأولى من «الربيع العربي» مع بعض الدول في المنطقة وبعض دول الغرب والولايات المتحدة الأميركية لتقوية الجماعات المتطرفة، وإرسالها إلى بعض دول المنطقة، وذلك بعد دعمها بالمال والأسلحة والتدريبات العسكرية.
كانت هذه السياسة بمثابة تعريف للقاعدة من قبل جهاز الاستخبارات السعودي وبعض دول المنطقة. بعدها مباشرة تم تكوين جماعات متطرفة ومسلحة أبرزها «جبهة النصرة، أحرار الشام، الجيش الحر، داعش والجبهة الإسلامية»، وكان هدف هذه الجماعات هو إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد والنظام السياسي في هذا البلد، إلا أن هذا الأمر لم يتحقق وحدثت نتائج أخرى.
أولاً: تمكن الرئيس بشار الأسد بعد مرور حوالى أربع سنوات من الصراع في سوريا من البقاء في السلطة بمساعدة إيران وحزب الله، وقد أوجد النظام السياسي اليوم لنفسه مكانة خاصة في سوريا، فيما أدرجت الكثير من الجماعات المعارضة له في قوائم الإرهاب.
ثانياً: أدى تشكيل جماعات مسلحة جديدة إلى اشتعال الخلافات بين هذه الجماعات، وقد أدى هذا إلى إزاحة بعضهم لبعض عن المشهد السوري.
ثالثاً: غيَّر داعمو الجماعات المسلحة ـ بالمال والأسلحة ـ سلوكهم تحت ضغط من الرأي العام والمنظمات المناهضة للحروب، وحاولوا ظاهرياً إعادة النظر في سياساتهم.
في حقيقة الأمر، وبالنظر إلى الأحداث التي تم ذكرها، نجد أن أجهزة استخبارات كل من السعودية وتركيا وقطر قد قامت بتقسيم إقليمي للأدوار، بحيث أصبح على «داعش» أن تستمر في عملياتها داخل الأراضي العراقية بدعم من أجهزة الاستخبارات التركية والقطرية، وقد نجحت هذه الجماعة في الاستيلاء على أجزاء من أراضي هذا البلد، وإعلان خلافتها في الموصل تحت قيادة «أبو بكر البغدادي»، حتى إنها أعلنت كذلك في خطوة سياسية استباقية أنها سوف تمد خلافتها أيضاً لتشمل أراضي «الحجاز».
نتذكر أنه مع بدء نشاطات «داعش» في سوريا، وفي أعقاب دعوة الملك عبدالله بن عبدالعزيز لمكافحة الإرهاب، وصفت وسائل الإعلام الإقليمية هذه الجماعة بـ«الجماعة الإرهابية»، لكن وسائل إعلام السعودية قد تناولت القضية من زاوية أن «داعش» وإن كانت جماعة إرهابية إلا أن من الضروري معرفة الأشخاص الذين هيّأوا الأرض الخصبة لظهور مثل هذه الجماعة.
انتهى الأمر إلى اعتبار أفكار الإخوان المسلمين هي العامل الرئيسي وراء ظهور مثل هذه الجماعة، وبعدها، بدلاً من أن يواجهوا عناصر هذه الجماعة الإرهابية «داعش» في السعودية، شنّوا هجوماً ضد مؤيدي الإخوان المسلمين في السعودية وبعض دول المنطقة، حتى إنهم ألقوا بزعماء هذه الجماعة ومؤيديهم في السجون.
من ناحية أخرى، عندما تحركت «داعش» في مسار يتواءم مع السياسة الخارجية السعودية في العراق، والتي كانت تهدف إلى إسقاط الحكومة المركزية في العراق، وخطت خطوات في سبيل تقسيم العراق، أعاد داعمو الجماعات التكفيرية دعمهم الإعلامي واللوجستي الكبير لهم، ووصل الأمر إلى اكتشاف وضبط سيارات ذات لوحات سعودية في محافظات شمالي العراق. كذلك فإن نائب الرئيس الأميركي، جون بايدن، قد أقرّ بأن «داعش» والتكفيريين في منطقة الشرق الأوسط هم صناعة تركية وسعودية.
تشير استطلاعات الرأي الأخيرة في السعودية إلى أن أكثر من90 % من الشعب السعودي يؤيدون «القاعدة»، وأن علماء السعودية يقومون بتوجيه أفكار الرأي العام من خلال فتاويهم لمصلحة هذه الجماعة، كما أن أعضاء هذه الجماعة يتولون مناصب مختلفة في السعودية.
ظل جهاز الاستخبارات السعودي طيلة الأشهر الماضية يدعم هذه الجماعة الإرهابية بقوة، ما دامت تحارب حكومة نوري المالكي، وقد استمر هذا الدعم حتى وقعت بعض الأحداث التي غيّرت من سياسة السعودية ظاهرياً:
أولاً: اتسع نطاق جرائم «داعش» ضد الإنسانية في العراق بشكل كبير، وأصبح الصمت أمام ارتكاب مثل هذه الجرائم يعدّ اشتراكاً فيها بشكل من الأشكال.
ثانياً: تم نشر العديد من الوثائق التي تفيد تقديم السعودية دعماً لوجيستياً للإرهابيين المرسلين إلى العراق.
ثالثاً: أصبحت الهجمات الإرهابية في العراق توجه إلى الإيزيديين والأكراد وأهل السنّة.
رابعاً: اضطرت منظمة الأمم المتحدة والدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية إلى اتخاذ موقف ضد «داعش» وجرائم الإرهابيين في شمالي العراق، تحت ضغط من الرأي العام.
بناءً على ذلك، فقد انقلبت الآية، وادّعت الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول في المنطقة محاربتها لهذه الجماعة من خلال تشكيل ائتلاف لمكافحة الإرهاب، وأصبحت السعودية بدورها من الدول المكافحة للإرهاب، كما أصبحت أيضاً ترغب في محاربة «داعش».
للأسف، لم يستطع حكام السعودية مواجهة الرأي العام في بلدهم، حيث إن دعم السعودية لهذا التنظيم كان من الوضوح بمكان يصعب معه الكتمان، ونتيجة لذلك فقد فكرت السعودية وأجهزة الاستخبارات في حيلة للخروج من هذا المأزق تمكّنهم من مواجهة الرأي العام.
حاول جهاز الاستخبارات السعودي في هذا الإطار صناعة وجه لهذا البلد يبدو ظاهرياً مكافحاً للإرهاب، وكان مشروع الاغتيالات والأعمال التخريبية في الرياض والمنطقة الشرقية جزءاً من هذه اللعبة السياسية.
الغريب في الأمر أن أكثر هذه الاغتيالات قد توجهت الى الشرق. فأفكار أهل الرياض لم تكن لتتقبّل مطلقاً مثل هذه الخسائر، لذلك كان ينبغي أن يحاك هذا السيناريو في المناطق الشرقية.
لقد تعرض عدد من أهالي منطقة الإحساء مؤخراً إلى إطلاق نيران من مدافع رشاشة على أيدي مجهولين. بعدها قامت حكومة آل سعود بترتيبات جيدة لتشييع جنازاتهم، بمشاركة عدد كبير من المسؤوليين الحكوميين، وكان ذلك محاولة منهم لتخفيف آلام أهالي هذه المنطقة. المهم في الأمر أن جهاز الاستخبارات السعودي قد أعلن مباشرة مسؤولية تنظيم «القاعدة» عن هذه الأعمال التخريبية، وشنَّ ضده هجوماً إعلامياً واسع النطاق في هذا الشأن.
يواجه الرأي العام الإقليمي حالياً عدداً من التساؤلات:
هل الجماعة التي حاربت اليمنيين في الأعوام الماضية ولا تزال تحاربهم حتى الآن في اليمن وحضرموت، برعاية جهاز الاستخبارات السعودي، والتي تحارب أيضاً الشعب والحكومة السورية تحت مسمى الثوار، هل هذه الجماعة على استعداد لأن تعمل ضد المصالح السعودية؟ هل هذه الجماعة على استعداد للانتحار؟ إن العمليات التي تقوم بها القاعدة في السعودية تعتبر انتحاراً وتدميراً لقواعدها الفكرية والمالية. هل سفارات السعودية في بلاد العالم على استعداد للمشاركة في نقل أعضاء هذه الجماعة إلى سوريا والعراق؟ كيف يمكن لـ«القاعدة» أن تقنع الرأي العام ومؤيديها في السعودية؟
للإجابة عن التساؤلات السابقة يجب الانتباه إلى النقاط الآتية:
أولاً: لقد اعتمدت الأعمال التخريبية للإرهابيين وتنظيم القاعدة والتابعين لها من أمثال «داعش» و«جبهة النصرة» وغيرهم في الأعوام الماضية على تنفيذ أعمال تفجيرات في الأماكن العامة وليس إطلاق النيران، كذلك فإن الاغتيالات التي حدثت في السعودية يمكن أن يستدل من كيفية تنفيذها على وجود أياد استخبارية وراء حدوثها.

نجحت السعودية في إعادة تقديم نفسها كبلد مكافح للإرهاب من خلال الدعاية الإعلامية

كذلك فإن «القاعدة» إن كانت تنوي تنفيذ عمليات إرهابية في السعودية، كانت ستلجأ إلى العمليات الانتحارية أو التفجيرات، وذلك لضمان وقوع أكبر كمّ ممكن من الخسائر، أما الاغتيال بالرصاص فهو يشير إلى تخطيط مؤسسة استخبارية.
ثانياً: ربما نسأل أنفسنا لو أن جهاز الاستخبارات السعودي وراء الحادثة التي وقعت في منطقة الإحساء، لماذا إذن شاركت بعض الشخصيات المهمة في القصر في تشييع الجنازة، على الرغم من احتمال وقوع أعمال عنف من قبل أبناء المنطقة. لقد أدركت الحكومة السعودية جيداً أن سكان المنطقة الشرقية لديهم القدرة على تنفيذ أعمال انتقامية، بناءً على ذلك فإنها قامت من ناحية بتأمين الجنازة، ومن ناحية أخرى شاركت شخصيات بارزة في القصر في التشييع للحيلولة دون وقوع أي أعمال عنف محتملة.
ثالثاً: لقد نجحت السعودية في إعادة تقديم نفسها كبلد مكافح للإرهاب من خلال الدعاية الإعلامية الواسعة النطاق التي شنّتها لإدانة «القاعدة» في الأحداث الأخيرة، وكذلك من خلال المسؤولية التي أخذتها على عاتقها في الائتلاف ضد «داعش»، وقد خطت بذلك خطوة باتجاه المواقف التي تبنتها الحكومات الغربية والولايات المتحدة. يمكن اعتبار هذا الأمر خطوة إيجابية بالنظر إلى الهزائم التي تلقتها في الأعوام الأخيرة في كل من سوريا والعراق.
لقد سعت السعودية بما اتخذته من إجراءات إلى إرسال رسالتين متزامنتين على الصعيدين الداخلي والخارجي: فعلى الصعيد الداخلي حاولت أن تتظاهر بأن «القاعدة» جماعة تنسب إلى "الإخوان" المسلمين ويجب القضاء عليها، أما على الصعيد الخارجي فقد حاولت التظاهر بعدم وجود دافع لديها للوقوف إلى جانب هذا التنظيم الإرهابي، وأنها على استعداد للتضحية به، وقد جاء ذلك محاولة منها لإعادة تنظيم علاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية.
=