القاهرة | أثار إعلان شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب إنشاء «مجلس أمناء بيت الزكاة والصدقات المصري»، جدلاً حول اتجاه النظام المصري لتأميم المجال الديني العام بمفهومه الواسع لمصلحة الدولة، في سلسلة قرارات بدأت بقانون تنظيم الخطابة، الذي جعل حق الخطابة مقتصراً على متخرّجي الأزهر، تبعتها موافقة الحكومة على مشروع قانون إنشاء «شرطة مجتمعية» تتمتع بالضبطية القضائية، وهو ما يشبه تماماً هيئة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» السعودية.
وبرغم ادعاء النظام المصري بأن تحرّكه في 3 تموز 2013 لعزل الرئيس الأسبق محمد مرسي من منصبه، «جاء لمنع تأسيس دولة دينية»، وبرغم الهجوم الإعلامي الواسع من منابر إعلامية مؤيدة لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، على «الإخوان»، تكشف مساعي النظام بوضوح سعيه الحثيث للسير في المسار الذي انتهجته الحركات الإسلامية بالتغلغل المجتمعي عبر بوابات الخطابة والخدمات الخيرية، في صراعٍ اجتماعي مع هذه التيارات في مناطق نفوذها.
سببٌ آخر مثّل دافعاً للنظام المصري لتأسيس بيت الزكاة، وهو محاولته رصد ومراقبة حركة «الأموال المجتمعية» التي تبلغ قيمتها مليارات عدة، يصرفها المصريون من زكاتهم وصدقاتهم التطوعية، فيما يعتقد النظام أن هذه الأموال هي أهم موارد التيارات الإسلامية، ولذلك هو يسعى لتجفيفها، في إطار صراعه الممتد مع التيار الإسلامي في البلاد، منذ عزل الرئيس محمد مرسي.
تبدو التجربة الجديدة على المجتمع المصري، استنساخاً لتجارب أخرى سجّلتها دول الخليج، بعكس المصريين الذين اعتاد معظمهم صرف أموال زكاته وصدقاته للجمعيات الأهلية أو لبعض رواد «أعمال البِرّ» المعروفين في محيط كل المناطق السكنية.
إنشاء «مجلس أمناء بيت الزكاة» الذي أعلنه شيخ الأزهر قبل يومين، شمل في قائمة أمنائه الوزيرة فايزة أبو النجا، أحد أعمدة نظام حسني مبارك، التي عادت إلى الواجهة بقوة مرة أخرى، ما أثار موجات من السخط بين الشباب، إضافة إلى محافظ البنك المركزي المصري فاروق العقدة، الذي يصفه المراقبون بأنه أحد أهم رجال جمال مبارك، ما يعكس الأزمة السياسية الحقيقية التي يمر بها النظام الحالي، والمتعلقة بانعدام البحث عن كوادر شابة تضفي على المشهد السياسي حيوية، بعد سنوات من التراجع والشيخوخة.
كذلك، فإن النظام الحالي يعمد إلى إحلال الأمن محل السياسة، وهي خطوات «تنذر بكارثة إن لم يجرِ التنبه إليها في أسرع وقت»، بحسب ما يرى الباحث المتخصص في العلوم السياسية في جامعة الأزهر محمد محسن أبو النور.
ويضيف أبو النور في حديث لـ «الأخبار»، إن تأسيس «بيت الزكاة» حلقة جديدة في حلقات تأميم المجال الديني العام الذي بدأ تأميمه بالفعل بعد قانون إصلاح الأزهر عام 1961، معالجاً تأسيس «بيت الزكاة» من زاويتين: الأولى وصفها بأنها محاولات لتعميق تغلغل الدولة في مفاصل العمل الديني، والثانية بعمل النظام على إعادة تصدير رموز نظام مبارك للواجهة كنتاج طبيعي لمرحلة التراجع السياسي التي تعانيها مفاصل الدولة المصرية في القطاعات كافة، وهذا الأمر يعد مؤشراً على إعادة إنتاج نظام مبارك الذي يفضل الولاء على الخبرة والكفاءة والتخصص.
من جهته، أشار الباحث في الحركات الإسلامية والجهادية محمد كامل، إلى «أزمة الثقة» بين الدولة والتيارات الإسلامية، الناتجة من النظرة الموحدة من الدولة للإسلاميين «الساعين للحكم وتطبيق أجندة إسلامية». هذه النظرة المنسحبة حتى على التيارات الإسلامية حليفة النظام في الوقت الحالي، وعلى رأسها «الدعوة السلفية»، هي السبب الرئيسي الدافع لتأسيس هذا الكيان، الذي قفزت الحكومة بتأسيسه على إشكاليات عدة، أبرزها هل تسقط الزكاة المدفوعة الضرائب المستحقة للدولة، سواء ضريبة الدخل أو غيرها من الضرائب التي تجبيها الدولة من المواطنين كضرائب المبيعات مثلاً، وهل سيكون التبرع لبيت الزكاة إختيارياً أم إجبارياً؟

النظام الحالي يعمد إلى إحلال الأمن محل السياسة


وأضاف كامل أن الدولة، في إطار صراعها مع التيارات الإسلامية، أغفلت أن «الثقة» بين المواطنين والكيان الديني الرسمي، أمرٌ مفتقد في الحالة المصرية، وذلك يظهر بوضوح في لجوء العديد من المصريين إلى طلب الفتوى من خارج الأزهر ودار الإفتاء، إما لجوءاً إلى بعض الرموز المستقلة أو بعض جهات الفتوى الرسمية خارج البلاد.
من جانبه، يُرجع الباحث المختصص في شؤون الحركات الإسلامية، أحمد بان، الدافع الرئيسي لدى النظام لتأسيس «بيت الزكاة» إلى ما وصفه بـ «الاستراتيجية الغائبة» عند الدولة التي تتصوّر، في غمرة صراعها مع التيارات الإسلامية، أن جمع الأموال والوصاية على سلوكيات الناس الشخصية، يؤسسان لدولة حديثة. وأضاف بان، أن التصور الحديث عن أي دولة مصرية حقيقية، يجب أن يضع تحريراً لعلاقة صحيحة بين الدين والدولة من خلال إطلاق المؤسسة الدينية الأبرز «الأزهر» وتوفير الاستقلال المالي لها والبعد عن التوظيف السياسي لرموزها، بعدما ثبت أن تدخلها في الجدل السياسي أسقط رمزية المؤسسة الدينية الرسمية.
ويرى الباحث المصري أن انتماء بعض أسماء مجلس الأمناء لنظام مبارك، يعكس «أزمة الكوادر» بقدر ما يعكس إعادة استنساخ نظام مبارك الذي ثار عليه المصريون. ويعتقد بان أن الإصرار على تعيين عناصر النظام القديم في أماكن «الدولة الجديدة»، يرسي بنية للعنف ويؤسس لثورة جديدة. إن محاولة إعادة إنتاج الماضي لن تمضي بنجاح، بحسب بان.