تونس | لا يزال المشهد السياسي في تونس غامضاً. لم تتضح معالمه بعد، ويعتبر مفتوحاً على سيناريوات ثلاثة تراوح بين: تقارب قطبي اليمين الفائزين في الانتخابات التشريعية (حركة نداء تونس وحركة النهضة الإسلامية) وتوافقهما بالتالي على الحكومة المقبلة، أو التنافر بينهما دون أن يعرقل ذلك تشكيل الحكومة، أو حل البرلمان وإعادة الانتخابات التشريعية، وهو الحل الدستوري الذي قد يُلجأ إليه إذا استعصى على «نداء تونس» تشكيل الحكومة ونيل الثقة خلال أربعة أشهر.
وينص الدستور على أنه بعد الإعلان النهائي لنتائج الانتخابات التشريعية، يكلف رئيس الجمهورية مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي الحاصل على أكبر عدد من المقاعد في مجلس النواب تشكيل حكومة خلال مدة تمتد شهراً قابلة «للتمديد مرة واحدة فقط». وإن فشلت الشخصية المكلفة خلال المدة المذكورة في تشكيل الحكومة أو في نيل الثقة في البرلمان (109 من أصل 217)، يكلف رئيس الجمهورية الشخصية التي يراها مناسبة لتشكيل حكومة. وأيضاً، إن فشلت هذه الأخيرة، بعد أربعة أشهر، يمكن حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة.
وانطلاقاً من النص الدستوري، تحصر كل السيناريوات الممكنة، التي ستحدد الوضع السياسي والاقتصادي للبلاد خلال الخمس سنوات المقبلة.

إمكانية تقارب قطبي اليمين

أول الخيارات المطروحة، يتمثل في تقارب بين حزبي «نداء تونس»، الفائز بأعلى عدد من المقاعد النيابية (86)، و«حركة النهضة»، التي تليه بعدد المقاعد (69).
ليس بالأمر المستحيل تشكيل هذا الائتلاف الحكومي بين أكبر قوتين سياسيتين في البلاد، فلا قطيعة جذرية واضحة بينهما. ويتخلل علاقتهما العدائية بعض من «المغازلة»، ويتركان دائما أبواباً مفتوحة للحوار. ويبدو أن «النهضة» تبحث عن «تعايش سلمي» مع خصمها، إذ لم تكن تصريحات قيادييها جازمة لجهة إقفال الأبواب حيال احتمال المشاركة في الحكم، بل بعثت بعدة إشارات تفيد بإمكانية التفاوض.
ويؤكد القيادي في الحركة، عبد الحميد الجلاصي، في حديث لـ«الأخبار»، أن «النهضة» تدرس عدة مقترحات، لكنها لم تجزم قرارها بعد، مضيفاً أنها ستنظر في كل صيغ المشاركة في الحكم، وبالتوازي ستدرس خيار البقاء خارجه. وأوضح الجلاصي أن الصورة ستتضح أكثر إثر نتائج الانتخابات الرئاسية.
ووفق تصريح القيادي في «النهضة»، ترى الحركة أن أفضل الصيغ المطروحة أمامها هي حكومة حزبية موسعة، تشارك فيها مع الأحزاب الفائزة بالإضافة إلى مشاركة «الاتحاد العام التونسي للشغل» و«منظمة الأعراف» (المنظمة التونسية للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية).
وبينما تشترط قيادات «نداء تونس» دعم الباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية للانضمام إلى الحكومة، رأى الجلاصي أن ذلك يمثل «مجرد تصريحات إعلامية تدخل في إطار الحملة الرئاسية».
في المقابل، لا تعلق قيادات «نداء تونس»، المنتشية بالنتائج التي حققتها في الانتخابات التشريعية، على هذه المسألة. وردّ باقتضاب النائب والقيادي في «النداء»، خميس قسيلة، على تساؤل لـ«الأخبار»، قائلاً إن حزبه «متحفظ من الحديث عن مسألة الحكومة، وأنه يركز كل اهتمامه على الانتخابات الرئاسية، أما حركة النهضة فلتصرح بما تريد».
من المهم جداً، بعد التدقيق في نتائج الانتخابات، القول إن «نداء تونس» يعي جيداً أنه لا يمكنه الحكم بمفرده، وعليه الدخول في ائتلاف قد يجمعه بـ«حركة النهضة» أو بنواب «حزب آفاق». ويعي كذلك أن «النهضة» تمتلك، ضمن تحالفاتها، ما يوصف بـ«الثلث المعطل» لإسقاط القوانين الأساسية المهمة.
ولا يستبعد الخبير في القانون الدستوري، قيس سعيد، في حديث لـ«الأخبار»، التقارب بين «النداء» و«النهضة»، مؤكداً أنه «في ظل غياب اختلاف جوهري في الطرح الاقتصادي بينهما، لا يمكن الجزم باستحالة هذا التقارب، بل يصبح ممكناً، خاصة أن الرغبة في التعايش السلمي بين الطرفين ستدفعهما إلى التوافق على التحالف».
«النهضة» تدرس عدة مقترحات ولم تجزم بقرارها بعد
يعي «النداء» أنه لا يمكنه الحكم بمفرده وأن عليه الدخول في ائتلاف


هذا التحالف إن وقع، سيضمن حكماً هادئاً، وسيسمح للحكومة بالمضي في الإصلاحات الهيكلية التي تشترطها الجهات المانحة العالمية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، دون أن تلقى معارضة ضارية في البرلمان. لكن ذلك سيكون على حساب الفئات الاجتماعية التي ستتضرر حتماً، وهنا يبرز دور «الجبهة الشعبية» التي ستكون محرك الشارع.

«النداء» يحكم وحيداً


يتمثل السيناريو الثاني في أن يختار «نداء تونس» الحكم وحده. عندها، سيلقى معارضة من بقية الطيف السياسي التونسي، خصوصاً أن غالبية الأحزاب صارت تخشى أن تعود منظومة حكم الحزب الواحد، الأمر الذي سيدخل البلاد في أزمات سياسية متتالية.
قد يكوّن «نداء تونس» جبهة حكم جديدة لا يتمثل ضمنها خصمه الإسلامي، ويستثنى منها حزب «الاتحاد الوطني الحر» الذي أعلن عداءه لـ«النداء»، وبذلك يكون التحالف مكوناً من «النداء» و«آفاق» (8 مقاعد) وبضع أحزاب أخرى. وسيمنح ذلك الثقة للحكومة في البرلمان (109)، في وقت سيكون فيه التحالف سيكون هشّاً.
ولا تنفك «حركة النهضة» تذكر خصمها الفائز بأنها في «موقع مريح»، يسمح لها أيضاً بالبقاء خارج الحكم و«الحكم من داخل مجلس نواب الشعب»، فهي التي زرعت أبناءها «أعيناً» داخل هياكل الدولة وإدارتها.
ويستهوي سيناريو البقاء في المعارضة شقاً واسعاً من الحركة، فيما يرفضه شق آخر يُعتبر متعطشاً لتجديد تجربة الحكم والدخول في ائتلاف يكفل عدداً من الحقائب الوزارية يليق بحجم كتلة «النهضة» في البرلمان، خاصة أنه برغم الاختلافات السياسية والأيديولوجية بين «النداء» و«النهضة»، فإن عامل التقارب الاقتصادي بينهما قد يكون قاسماً مشتركاً يجمع قطبي اليمين.


أزمة برلمانية

يتمثل السيناريو الثالث بدخول البلاد في أزمة برلمانية. إذا اختارت «النهضة» قيادة صفوف المعارضة وحشدت خلفها قوى أخرى، فباستطاعتها منع «النداء» من تشكيل الحكومة، وربما من نيل الثقة في البرلمان، في مشهد من المفترض أن يقود إلى انتخابات تشريعية جديدة.
ويعد هذا الأمر أقصى السيناريوات السياسية المطروحة، وفي حال حدوثه سيشكل وقوداً لأزمة خانقة قد تهدد السلم الأهلي في البلاد.