مع توالي عمليات الطعن والدهس التي تستهدف المستوطنين والجنود الإسرائيليين، انتقل مستوى القلق في تل أبيب من التدهور إلى الخوف من انتفاضة شاملة متواصلة، وهو ما أعاد إلى الذاكرة الانتفاضة الفلسطينية عام 2000.
ورغم التشابه بين العمليات التي تستهدف المستوطنين داخل إسرائيل وعمليات سابقة، فما يميز عمليات اليوم هو تزامنها مع تحرك جماهيري فلسطيني واسع، مع أجواء احتقان شعبي، على خلفية السياسات الإسرائيلية تجاه المسجد الأقصى، وأيضاً في أعقاب تعمّد عناصر الشرطة الإسرائيلية قتل المواطن الفلسطيني خير حمدان قبل أيام.
في المقابل، تحدثت تقارير إسرائيلية عن مقتل مستوطنَيْن وجرح آخر في الكتلة الاستيطانية «غوش عتسيون» في منطقة القدس، بعد صدمهم بآلية وطعنهم من قبل المنفذ. وقبل ذلك، قتل جندي إسرائيلي إثر عملية طعن تعرَّض لها في محطة القطارات في تل أبيب.
وعلى وقع تواصل عمليات الطعن، يخشى الإسرائيليون من أن يؤدي اتساع نطاق هذه العمليات، المتزامنة مع تحرك جماهيري احتجاجي، إلى «انتشار الشعور بفقدان الأمن الشخصي لدى المواطنين الإسرائيليين»، وهو أمر سبق أن ساد في السنوات الأخيرة.
ويمثّل الوضع الذي آلت إليه المناطق المحتلة عام 1948، تحدياً إضافياً لحكومة بنيامين نتنياهو، فضلاً عن باقي المؤسسات الأمنية والسياسية. ويتداخل الاعتبار الحزبي والحكومي مع المنافسات السياسية والأبعاد الامنية التي تنطوي عليها هذه الأحداث، في بلورة السياسات الإسرائيلية. مع ذلك، تتجه بوصلة اهتمام صانع القرار في تل أبيب، نحو سيناريو إمكانية اتساع نطاق المواجهة الشعبية لتشمل الضفة الغربية، التي إن بادرت إلى مساندة الهبّة الشعبية الفلسطينية في الداخل الإسرائيلي، فستتفاقم أزمة إسرائيل عموماً وحكومة نتنياهو خصوصاً.
في هذه الأجواء، يتّسم أداء القيادة السياسية، ومعها الأجهزة التنفيذية من شرطة واستخبارات، بكونه ينطلق من نظرية أن «الفلسطينيين في إسرائيل هم مصدر تهديد كامن للأمن الاسرائيلي». وبناءً على ذلك، «لا ينبغي منحهم فرصة الشعور بالثقة الزائدة التي تجعلهم يعتقدون أنّ بإمكانهم ليّ ذراع الدولة، حتى في الحالات التي تمارس الأجهزة الرسمية القمع بحقهم».
على خط موازٍ، يحاول نتنياهو ومن معه من بقية الطاقم السياسي المحيط به، أن يبدو أكثر حزماً وبطشاً بهدف تعزيز قدرة الردع، التي عادةً ما تحكم تفكير صانع القرار عندما يكون في مواجهة عدو على جبهات القتال. ويحضر في اعتبارات نتنياهو أيضاً، المنافسة اليمينية التي تحاول الذهاب بمواقفها إلى أبعد حد بهدف كسب تأييد الجمهور الإسرائيلي.
في هذا الإطار، هدد نتنياهو الفلسطينيين الذين يعبّرون عن احتجاجاتهم بالتظاهرات الشعبية، بترحيلهم إلى المناطق الفلسطينية المحتلة. وتوجّه إلى الفلسطينيين بالقول: «أدعوكم للانتقال إلى هناك ولن نضع العوائق في طريقكم». وفي محاولة لحشر الفلسطينيين أمام خيار الخضوع للسياسات الإسرائيلية، تجاوز نتنياهو الأسباب الحقيقية التي دفعتهم إلى لتحرك، بالقول إن إسرائيل تحارب ما سمّاه «التحريض الذي تقوده السلطة الفلسطينية». ولم ينسَ أيضاً توجيه المزيد من التهديدات، بـ«استخدام الصرامة» مع من سمّاهم «المخلّين بالنظام الذين يدعون إلى تدمير إسرائيل». ومثلما استخدمت إسرائيل التصعيد العسكري المتدرج في مواجهة قطاع غزة، كشف نتنياهو عن أنه قرر الارتقاء في أساليب العنف الرسمي ضد المدنيين الفلسطينيين عبر إيعازه «استخدام كل الوسائل المتاحة، بما في ذلك هدم المنازل واستخدام أشدّ القوانين صرامة وسنّ قوانين جديدة إذا تطلب الأمر»، وهو ما يؤكد حقيقة أن ما يميز إرهاب المستوطنين عن إرهاب الدولة، أن الأول لا يكون تحت عناوين رسمية، فيما الثاني يتخذ طابعاً قانونياً، رغم أنه قد يكون أشد وأكثر بطشاً من الأول، إذ إن المستوطنين غير قادرين في أكثر الحالات على تدمير المنازل، بينما أجهزة الدولة قادرة على ذلك.
وبهدف تبرير السياسة القمعية الإسرائيلية، أعطى نتنياهو أبعاداً لا تحتملها التظاهرات الشعبية وحتى عمليات الطعن والدهس التي يضطر إليها الفلسطينيون، بسبب محدودية ما يملكون من قدرات، بالقول إن «مخططات الإرهابيين لطردنا لن تنجح بل سيتم الانتصار عليهم».
وفي محاولة للالتفاف على المزايدات السياسية الداخلية التي عادةً ما تتزامن مع تطورات من هذا النوع، دعا نتنياهو الإسرائيليين إلى «الوحدة»، مضيفاً أن «هذا ليس وقت التصريحات التي تؤدي إلى الانقسام، كلّما كنا موحدين أكثر نكون أقوى، وهذا ما تتطلبه إسرائيل اليوم».
كذلك، لم يجد نتنياهو في كل السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، أي سبب أو دافع لهم للانتفاض على واقعهم، بل ألقى المسؤولية على ما سمّاه «تحريض الإسلام المتطرف»، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وحركة «فتح».
من جانبه، كرّر وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، مواقفه التقليدية بالدعوة إلى التخلّص من «منطقة المثلث»، مشيراً إلى أنه «حينما نتحدث عن عملية سياسية ينبغي أن يكون جزءاً منها تبادل مناطق وسكان، نحن هنا وهم هناك، المثلث يجب أن يكون جزءاً من الدولة الفلسطينية». وتطرق ليبرمان أيضاً إلى رسالة التعزية التي أرسلها الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى عائلة الشهيد معتز حجازي الذي قتل الحاخام يهودا غليك، حيث رأى ليبرمان أنّ «على قيادة الجمهور العربي عدم التحريض، بل العمل على التهدئة».
من جهته، حمَّل رئيس حزب «العمل» المعارض يتسحاق هرتسوغ، رئيس الوزراء والحكومة مسؤولية التدهور الأمني الحاصل، قائلاً إنهم «أخطؤوا قراءة خريطة التطورات وجلسوا مكتوفي الأيدي إزاءها».
من جهة أخرى، كشفت إذاعة الجيش الإسرائيلي، صباح أمس، عن تفاصيل مخطط ضخم لشق عشرات الطرقات والشوارع الالتفافية لمستوطنات الضفة الغربية تمتد على طول 300 كلم، وتصادر عشرات آلاف الدنمات من الأراضي الفلسطينية، وتثبت سيطرة إسرائيل على مناطق واسعة في الضفة الغربية ومنطقة القدس. وقال التقرير إن الخطة التي تسمى «خطة درج» هي نتاج عمل استمر سنوات طويلة، وتشمل 44 مخططاً، أقرّ 24 منها ولا يزال 20 قيد الدراسة. ويبلغ طول الشوارع في المخططات التي أقرت 157 كلم، فيما يبلغ طول المخططات التي لم تقر بعد 140 كلم. ويدور الحديث، بالمجمل، عن 300 كلم من الطرقات.
ويتطلب شق هذه الشوارع مصادرة نحو 25 ألف دونم، ما يعني تعميق السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية. وأشار التقرير إلى أن الصفقة التي أبرمها نتنياهو مع قيادات المستوطنين تتضمن دفع مخططات عدة من هذه الخطة، ومن المتوقع أن يُدفَع تدريجاً بالمزيد من المخططات في الفترة القريبة. وقال التقرير إن ذلك يعني أن «إسرائيل أقامت على مدى سنوات بنكاً ضخماً من الشوارع المخططة التي يتطلب شقها مصادرة أراضٍ فلسطينية بنحو غير مسبوق».