لغتنا العربية، هي وحدها التي بقيت مُعلبة، في صناديق قديمة، آنذاك لم يكونوا قد اخترعوا بعد المواد الحافظة، لتساعد على بقائها في حالتها الأفضل، آنذاك كانت اللغة طازجة، يمكن أن تستهلكها سريعاً، وأن تبني من خلالها عالماً إضافياً على عالمك الذي تعيش، وكانت المفردات آنذاك أيضاً تفوح بالرائحة.
فكلمة واحدة قد تشبع رغباتك وقلبك وروحك وعقلك، في ذاك الزمن كان يُلقى باللغة على مريض أو مسحور فيعود إليك بكامل تألقه، وإن كنت ضعيفاً فهناك ما يقويك، ويأخذ بيدك إلى الساحات والميادين رافعاً رأسك مبتسماً والكل يبتسم لك، وما بين الابتسامة والابتسامة تقطف الكلمات، ومهما فعلت بها فتخرج جاهزة، جدية وجميلة، تعود بها إلى بيتك لتفاجئ أبناءك فتجدهم قد أحضروا أكثر منك كلمات اللغة في سلال من القش، وأحياناً كانوا يخبئونها تحت وساداتهم، أو في حضن إحدى صديقاتهم التي لا أب ولا أم لها ليكتشف ما تخبئه تحت مريولها. وفي الصباح تجدها قد هربت لك بعضها من تحت فتحة الباب، أو أرسلتها لك عبر صفّارة لا يشبهها أحد.
في زمن اللغة الحقيقية والفاعلة كان للكلام شكل مصور ومادي، إن قلت بيتاً فتجد ألف باب فُتح لك، وعشرات النوافذ قد أضاءت لك الطريق، وكانت المعاني متقاربة، ليست ضدية، ليست متناقضة وليست بيضاء وسوداء، كانت ملونة لكنها منسجمة، كالطابة تتدحرج فيلعب بها الجميع ويرمون بها لبعضهم بعضا دون كلل أو ملل.

وتناقلت، كما نحن الآن، ننقل الكذبة تلو الكذبة، فتصبح خيالاً لا هو علمياً ولا يتبع لأي نوع من أنواع الحياة.
بدأ حينها المرابون يسرقونها من الضعفاء، ويسرقونها ليلاً من البيوت والنوافذ المفتوحة، يحملونها بأكياس الخيش الخشنة، فيخدشون الحروف، وبدأت تتآكل، وأخذوا يخبئونها في كل مكان لا يصل إليه البشر، يضعونها في التوابيت والقبور، وبدأ الشعور عند البعض أن هناك اختناقاً في السماء، هناك انتقاص في التعبير فلم يعودوا كسابق عهدهم وآبائهم قادرين على استخدام اللغة بمرونة كما اعتادوا، أما القوادون والمرابون فلم يحسنوا تخبئة هذه المعاني جيداً وأصل اللغة بدأ يضعُف شيئاً فشيئاً، لم يفكروا كثيراً بحفظها في مناخ مناسب ومعتدل يحافظ عليها وقت حاجتها، وأن تبقى بهيبتها المتوقعة.
كان يُلقى باللغة على مريض أو مسحور فيتعافى
أكلوا وشربوا منها وحدهم دون غيرهم، استهلكوها واستعملوها حتى فنيت من شدة الاستهلاك.. اصبحت جلدة على عظمة، خالية من المعاني، ضعيفة، مشوهة لدرجة لا تطاق.
جئنا نحن نخرجها من معلباتها الصدئة، ويا ليتنا لم نفعل!! لم ننتبه لانتهاء صلاحيتها، ولم نعلم أنها منقوصة ومتآكلة، وحالما تخرجها من مكانها تبدأ بالتكسر والتشقق. بعض من خبرائنا لملم رذاذها معتقدين أنهم يعيدون إليها حياتها، بعض من الرماد المجبول بالصدأ أيضاً كان من ضمن التجربة، ووضعوها في كيس بلاستيكي طائر من مكان آخر، مسحوا عنها بعض الغبار وقدموها إلينا كوصفة غير معروفة، فوجدنا انه لم يمر علينا شيء بمثل هذا العفن، حملناها مباشرة لنضعها في ثلاجة علّها تساعدنا على مداواة حموضتها ومرارتها، وبعدما نسيناها هناك فترة من الزمن معتقدين أنها نوع من البوظة، جاء أبناؤنا المساكين من ملاعب الطين وثيابهم المتسخة، وقبل أن يغتسلوا ذهبوا للثلاجة، بعضهم أكلها فمات مباشرة، وبعضهم كان أكثر حظاً لكونه من طبقة اجتماعية مرتاحة ماديا، هكذا، حملوها الى أمهاتهم ووضعوها في خلاطة «المولينكس»، أضافوا اليها قليلاً من المزاح والضحك والهرج والمرج، وخلطوها لساعة.. لساعتين.. لثلاث ساعات، وبعدما فطنوا أن هناك شيئا ما يدور ويمثل عائقا للخلاط، اكتشفوا أنهم وضعوا معجوناً غريباً فيه، ونظروا من خلف زجاج الجرن الشفاف، ليشاهدوا بعض الأشياء التي تشبه الحروف المتناثرة والمتكسرة، ضحكوا كثيراً ومات منهم البعض لفرط الضحك، أما من تبقى منهم فقد أُلبسوا الكفوف وجبلوها بخليطٍ سري وراحوا بها يستخدمونها مرهماً على ألسنتهم، وبدأ هذا التحول المخيف في اللغة.

لم تعد لغتنا صالحة لشيء، هي محلية بحتة لدرجة الملل، محلية بحيث تشبه صاحبها ولا تليق بآخرين، وحين نستخدمها للتفاهم مع الآخرين، فإنها تشتت وتقتل وتفتك وتلعن. هي غير صالحة لا للأكل ولا للحلم، غير صالحة للقصص أو الشعر، غير صالحة اقتصادياً أو دينياً أو اجتماعياً، وما زالت لعنة المرابين فيها كامنة حتى هذه اللحظة، كلما ركّبت منها كلمة، عليك أن تدفع عمرك مقابلها! مراهنة صعبة، تورطنا بها ولا يمكننا الهروب منها أو إنكارها، هي مزودة بشفرات جارحة في كل الاتجاهات، بأي شكل أدرتها ستسفك دمك. نهايتك بها، وعمرك أصبح ماضياً منذ أن تعلمتها.
لغتنا لا هي ناقصة، ولا جديدة، ولا نافعة، ولا مستساغة، بدون رائحة ولون وطعم ومعنى، لا تشبه الحقيقة ولا الواقع ولا الأرض ولا الإنسان، لا تشبه الموت ولا الحياة ولا المستقبل ولا الماضي.. لغتنا متآكلة مترهلة وفيها لعنة غلبت لعنة الفراعنة والسحرة.