في اللقاء الثنائين الذي جمع الفيصل مع نظيره الإيراني جواد ظريف في نيويورك على هامش الدورة التاسعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 أيلول الماضي، بدا منسوب التفاؤل لدى ظريف مرتفعاً أكثر مما ينبغي، حتى إنه اعتبر اللقاء بداية «فصل جديد» في العلاقات بين طهران والرياض، وزاد على ذلك بأن اللقاء سيكون له أثر إيجابي على الجهود المبذولة لاستعادة السلام في المنطقة والعالم وحماية مصالح جميع الدول الإسلامية.
تصريح سعود بن فيصل كان متناغماً من حيث الشكل مع تصريح ظريف، بقوله «ان ايران والسعودية هما من الدول المؤثرة في المنطقة»، وإن «التعاون بين طهران والرياض يمكن أن يساعد في تعزيز السلام والأمن في المنطقة والعالم بأسره». ولكن، لم يغلق الوزير السعودي القوس، فقد أضاف عبارة ملغومة «يجب تجنب أخطاء الماضي، بحيث يكون من الممكن إنهاء الأزمات التي تعاني منها المنطقة». في أجواء التفاؤل، ترتدي الكلمات الرديئة معاني برّاقة. وعلى حد الروائي الفرنسي «أجمل كلمات في العالم لا تعدو كونها أصواتاً لا طائل منها إذا لم تكن تفهم معناها».
التطوّرات المتلاحقة التي أعقبت اللقاء اليتيم بين الفيصل وظريف عزّزت من مبررات القطيعة
ظريف كشف عن زيارة قريبة للرياض لاستكمال المشاورات مع الجانب السعودي، عقب الزيارة التي قام بها نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في آب الماضي.
افترق الوزيران السعودي والإيراني من نيويورك، ولكن من دون «فصل جديد» ولا زيارة قريبة. فالتطوّرات المتلاحقة التي أعقبت اللقاء اليتيم عزّزت من مبررات القطيعة، وأهمها:
أولاً ـ في اليمن ضربة في صميم النفوذ السعودي تحقّقه جماعة أنصار الله. ومن كيد الصدف، أن يعقد اللقاء بين سعود الفيصل وجواد ظريف في نفس اليوم الذي تسقط فيه حكومة محمد باسندوة، المقرّب من السعودية، على أيدي من تعتبرهم الأخيرة حلفاء لإيران. وبالرغم من ترحيب الرياض باتفاق السلم والشراكة الذي وقعته القوى السياسية اليمنية في الشمال والجنوب برعاية الرئيس عبد ربه منصور هادي، الا أن ثمة «استفاقة» لاحقة وسريعة لدى الجانب السعودي بدّدت ما كان يعتقد بأنه مناخ إيجابي مع طهران.
في اجتماع جدّة لوزراء داخلية مجلس التعاون الخليجي في الأول من تشرين الأول الجاري، صدر تحذير جماعي يقول «إن دول المجلس لن تقف مكتوفة الأيدي أمام التدخلات الخارجية الفئوية في اليمن، حيث إن أمن اليمن وأمن دول المجلس يعتبر كلاً لا يتجزأ». في الترجمة الفورية لـ»التدخلات الخارجية» تصبح إيران هي الكلمة المرادفة، وفي الشرح تكون اليمن امتيازاً سعودياً خالصاً (بغطاء خليجي)، وجزءاً من مجالها الحيوي بلا منازع أو منافس.
الصحافة الرسمية، أحد مجسّات التوجّه السياسي السعودي، شنّت حملة منظّمة على «أنصار الله» ووصفت الحراك الشعبي بأنه محاولة لإشاعة الفتنة، والعبث بمنجز سياسي كان قد تحقق عبر المبادرة الخليجية.
صحيفة «الرياض» المقرّبة من العائلة المالكة كتبت في افتتاحية الحادي عشر من تشرين الأول بأن «دخول إيران على الخط في توجيه الحوثيين وخلق رئيس لليمن بمواصفات مالكي العراق، سوف يعيدان النظرة السلبية للقاعدة من قبَل دول تريد إغراق اليمن في حروب مذهبية وقبلية، وهذا ما توفره الظروف الراهنة..».
محاولة عرقنة اليمن، بحسب الصحيفة، ليست أكثر من رسالة تحذير لليمنيين في الشمال والجنوب بأن أي مسعى نحو تجاوز بنود «المبادرة الخليجية»، سوف يفتح الباب أمام القاعدة وداعش. التلويح السعودي بالإرهاب تماماً كالتلويح الأميركي بالديموقراطية بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 حيث ربطت الولايات المتحدة مكافحة الإرهاب بالإصلاح الديموقراطي في الشرق الأوسط فتحوّل لاحقاً الى سلاح سياسي عبّر عنه أحدهم بشعار «Be nice to America or we will bring democracy to your country «. وفي حال سعودة الشعار يصبح: كن طيباً مع السعودية أو سنجلب داعش الى بلدك.
في السياق الديني، بلغ التحريض المذهبي أوجه بإطلاق قنوات طائفية ومشايخ وهابيين من مساجد الرياض فتاوى الجهاد ضد الحوثيين، تسيّلت على الفور في عمل انتحاري وسط المتظاهرين في صنعاء في 9 تشرين الأول الجاري، وأودى بحياة أكثر من ثلاثين شخصاً وجرح ما يربو على المئة. الشيخ خالد الغامدي، المقدّم في قناة «وصال» تباهى بزهو طائفي بمشهد الأشلاء في مكان الانفجار، وقال في تغريدات له على تويتر «كم هو جميل أن يرى شخص منظراً في غاية الروعة فيساهم في نشره ليتمتع به الغير». وتوعّد بالمزيد بقوله «ليس بيننا وبين جماعة الحوثي الإ الدم الدم والهدم الهدم».
ثانياً ـ التحالف الدولي ضد الإرهاب: من وجهة نظر ايرانية، الارهاب ليس أكثر من ذريعة فجّة لحرب متدحرجة تقود الى مواجهة مفتوحة بين المحورين الرئيسيين (الولايات المتحدة ومن ورائها دول الاعتدال، وروسيا ومن ورائها دول الممانعة)، على أن تكون ساحة الحرب دول المقاومة (سوريا، العراق، لبنان، وتالياً اليمن إن دعت الضرورة).
في النتائج، تلبّد مناخ العلاقات السعودية الايرانية بكل أشكال الارتياب مجدّداً، وعاد سعود الفيصل للتفرّد بالملف، وكشف عن حقيقة أن ما بين الرياض وطهران هو «صراع نفوذ» متعدّد الاتجاهات، وهو العنوان الذي يفرض نفسه على علاقتهما الآن وفي المستقبل. هذا ما يقوله سعود بن فيصل بشكل صريح في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الألماني فرانك فالتر شتاينماير في 13 تشرين الأول الجاري أن «ليس هناك تحفظ عن ايران كوطن ومواطنين، وإنما التحفظ عن سياستها في المنطقة». وفي الشروط اللاملفوظة في السياسة أن العلاقة بين الرياض وطهران متوقفة على سحب الأخيرة قواتها من سوريا والعراق واليمن وأي مكان، يكون فيه للرياض قدم سبق. يريد القول يجب على إيران أن تخلي المنطقة لتكون هي وحدها من يقرر شؤونها. بكلمات أخرى، موقف الوزير السعودي حسم التكهّنات بقرب التسوية في ملفات المنطقة من اليمن، وصعوداً الى لبنان، ومروراً بالعراق وسوريا، وأغلق الباب على ما تبقى من تفاؤل لدى الفريقين.
في التداعيات، قررت الرياض أن تخوض الحرب بأشكال متعدّدة، بما في ذلك استخدام سلاح النفط الذي سخر سعود الفيصل إبان العدوان الإسرائيلي على غزّة في 2008 ـ 2009 من دعوة إيران لاستخدامه لجهة الضغط على المجتمع الدولي لإرغام اسرائيل على وقف عدوانها، وقال في مؤتمر صحافي عقده في نيويورك في 8 كانون الثاني 2009 إن «استخدام النفط وخاصة في هذا الوقت فكرة فقدت قيمتها»، وتابع: «النفط ليس سلاحاً». ولكن هذا السلاح يجري استخدامه الآن وبفعالية ضد الخصوم وعلى وجه الخصوص إيران وروسيا، وهذه من مفارقات الحرب على الإرهاب!
ولكن السؤال: ما مناسبة التصريح الناري لسعود بن فيصل؟
قبل الإجابة، لا بد من التذكير بالإجماع شبه التام داخل العائلة المالكة على الملفات الخارجية، وأن الاختلاف، إن حصل، هو في طريقة التعبير عنها ليس إلا.
للإجابة نقول إن سعود الفيصل الدبلوماسي المخضرم الذي أسبغ على «الخارجية» السعودية طابعاً خاصاً وشخصيّاً الى حد كبير، كان يخوض معركته الخاصة داخل العائلة المالكة، وخصوصاً مع جناح الملك عبد الله الذي بدا «مختلفاً» في مقاربة العلاقة مع ايران، مع أن الملك هو صاحب العبارة المشهورة «قطع رأس الأفعى» في إشارة إلى ايران بحسب وثائق ويكيليكس.
علاقة عبد الله ـ رفسنجاني/ خاتمي سلكت طريقاً فرعياً مع وصول خاتمي الى سدّة الرئاسة في ايران في أيار 1997، مستندة الى العلاقة الشخصية والعائلية الى حد ما بين الشيخ هاشمي رفسنجاني، رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، والملك عبد الله. حينذاك، لم يكن وزير الداخلية الأسبق نايف بن عبد العزيز راضياً عن تلك العلاقة، حتى إنّه تعمّد إبلاغ الملك عبد الله، ولي العهد حينذاك، بأن حزب الله الحجاز وراء تفجيرات الخبر، شرق المملكة، في 25 حزيران 1996 قبل الانتهاء من التحقيقات بهدف تخريب التقارب الإيراني السعودي.
قبل شهور، جرى لقاء بين عبد اللهيان ونجل الملك، عبد العزيز بن عبد الله في السنغال وكان الحديث يدور حول «الدور التخريبي» الذي يقوم به سعود الفيصل، ما يحول دون بدء فصل جديد حقيقي في العلاقة بين الرياض وطهران. تعهّد عبد العزيز حينذاك لنظيره الايراني بأن يتولى «جناح الملك» الملف، وطلب منه زيارة المملكة لتمهيد لزيارات أخرى أرفع. اكتشف سعود الفيصل نبأ اللقاء وانتظر اللحظة المناسبة لتوجيه دعوة ملغومة لنظيره الايراني، وفهم الأخير منها العكس، أي لا دعوة، وأنه بات على علم بخبر الترتيبات الخاصة، وأنه وحده من يدير «الخارجية».
تمّ تجميد اللقاءات، وكان اللقاء بين ظريف والفيصل في نيويورك الشهر الفائت قد جرى الإعداد له طويلاً، ولكن سعود الفيصل كان يستجيب لطلب عمّه، الملك، قبل أن يتوارى عن المشهد، لأسباب غامضة، ترجّح المصادر المتابعة بأنها صحيّة.
كان الوزير السعودي يبحث عن ذريعة لقطع الاتصالات تماماً مع طهران فجاء: الحدث اليمني، والحرب على داعش، إلى جانب الوضع الصحي الغامض للملك ليحسم ناظر الخارجية الموقف بتصريحه الناري، حيث وضع شرطاً تعجيزياً لتطبيع العلاقة بين الرياض وطهران، وكأنه يقول بأن الطريق مغلقة حتى إشعار آخر.. ليس إيجابياً.
طهران: مصطلح المحتل يليق بالسعودية
تفاعلت، أمس، ردود الفعل الإيرانية على تصريحات وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل التي اتهم فيها إيران بـ«احتلال» دول عربية. وبعد الرد السريع الذي أتى أول من أمس، على لسان مساعد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، قال رئيس لجنة السياسة الخارجية والأمن القومي في البرلمان الإيراني علاء الدين بروجردي(الصورة)، أمس، إن تصريحات الفيصل «إنما أتت بفعل شيخوخته ومرضه». ورأى أن هذه التصريحات «تليق بالدول التي تقدم دعمها للإرهابيين في سوريا والعراق، وتتدخل بقوات عسكرية لقمع الحراك السلمي في البحرين»، مضيفاً أن «مصطلح المحتل، يليق بالقوات السعودية». وأشار إلى أنه «حتى أميركا، بصفتها العدو الأول لنا، تعترف بأن إيران تؤدي دوراً إقليمياً بناءً، وبأن حلّ مشاكل المنطقة من دونها غير ممكن».
(الأخبار، مهر)