يشهد شمال غزة، الذي صار مسرحاً لأبشع الفظائع، إبادة جماعية للسكان المدنيين على مرأى العالم ومسمعه. في مشروع بيت لاهيا، يتجمّع أكثر من مئة وعشرين ألف نازح من منازلهم المدمرة، ينتظرون مصيراً مظلماً، وسط تحوّل حتى المستشفيات إلى مقابر جماعية، في مأساة حية ووحشية تتواصل على مدار الساعة. وفي الوقت الذي تمزق فيه القذائف أجساد المدنيين في بيت لاهيا، تعيش جباليا ومخيّمها مأساة أخرى تُضاف إلى سلسلة المجازر المتواصلة. جباليا، المدينة الكثيفة بالسكان، كانت منذ الأيام الأولى للهجوم هدفاً واضحاً لقصف الاحتلال الإسرائيلي. إذ تعرّض المخيم، الذي يعد أكبر مخيمات اللاجئين في غزة، لقصف عنيف ومستمر لم يفرق بين المنازل والملاجئ، لتجد المئات من العائلات نفسها مشردة بلا مأوى ولا حتى الحد الأدنى من الظروف الإنسانية. وتصف «الأونروا» جباليا اليوم بأنها «بؤرة الهلاك»، حيث تتدفق العائلات الهاربة من الموت من كل الجهات بحثاً عن ملجأ في المدارس التي باتت لا تكفي لاستيعاب الأعداد المتزايدة. لكن حتى هذه المدارس لم تعد مكاناً آمناً، إذ قُصف بعض منها، ليتحول بدوره إلى مقابر جماعية.
في هذه الظروف المأساوية، تبرز مجزرة مستشفى «كمال عدوان» كواحدة من أكثر الجرائم وحشية. المستشفى الذي كان ملاذاً للجرحى والمصابين، أصبح الآن رمزاً آخر للفوضى والموت. هناك، يُترك المرضى والمصابون للموت البطيء بسبب نقص الأدوية والمعدات، بينما يستعد المستشفى للتحول إلى مقبرة جماعية، مع تراكم الجثث وعدم وجود أي مكان آخر لنقل الشهداء إليه. ورغم أن استهداف المستشفيات يشكّل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، تمرّ هذه الجرائم من دون عقاب، في ظل تواطؤ دولي وصمت مؤسسات حقوق الإنسان التي باتت عاجزة عن وقف النزيف المستمر في شمال غزة.
مخيم جباليا رمز لحق العودة ولصمود الشعب الفلسطيني منذ النكبة
الاحتلال والإبادة الممنهجة
منذ بداية الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، والذي تحول مع مرور السنوات إلى نظام عقوبات جماعية على السكان، لم تتوقف سياسات الإيذاء الممنهجة التي يتبعها الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين. ولكن هذه المرة، تتجاوز الأمور حدود «التأديب» العسكري أو القمع اليومي المعتاد؛ إذ إن ما يحدث في شمال غزة، وفي جباليا تحديداً، هو نموذج واضح لسياسة إبادة جماعية تعتمد على تكتيكات التهجير القسري والقصف العشوائي، بهدف القضاء على ما تبقى من مقاومة فلسطينية وصمود. وفي خضم ذلك، غالباً ما تختار وسائل الإعلام العالمية الكبرى التركيز على رواية الاحتلال الإسرائيلي، حيث تُقدَّم العمليات العسكرية على أنها دفاع عن النفس ضد «الإرهاب»، في حين تُهمَّش معاناة الفلسطينيين وتُختزل في أرقام جافة تشير إلى «ضحايا جانبية». ويحاول الاحتلال، عبر هذه السيطرة الإعلامية، قلب الحقائق وإظهار نفسه كضحية في مواجهة شعب أعزل، محاصر، ومحروم من أبسط حقوقه الإنسانية. ولعل أكثر ما يثير السخرية هو أن العالم الغربي، الذي يتغنى بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، يقف عاجزاً ليس فقط عن اتخاذ خطوات عملية لوقف هذه الجرائم، بل حتى عن إدانتها.
جباليا والذاكرة التاريخية الفلسطينية
جباليا ليست مجرد مخيم للاجئين، إنها رمز لحق العودة ولصمود الشعب الفلسطيني منذ النكبة. لذلك، يبدو استهدافها ليس مجرد مصادفة، بل هو جزء من سياسة طويلة الأمد تهدف إلى طمس معالم الهوية الفلسطينية في الأماكن الأكثر ارتباطاً بالذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني. وعليه، فإن القصف الذي يطال جباليا اليوم هو محاولة أخرى لمحو آثار هذا التاريخ، وتدمير الحاضر والمستقبل. ولكن، كما أثبت التاريخ مراراً، فإن الشعب الفلسطيني قد استطاع عبر العقود الماضية مقاومة هذه المحاولات، وسيواصل الصمود رغم وحشية الاحتلال. وبينما تستمر المجازر في شمال غزة وجباليا، يصبح السؤال الأكبر: إلى متى سيستمر هذا الصمت الدولي؟ هل ستظل «إسرائيل» تمارس الإبادة الممنهجة من دون أن تواجه عواقب حقيقية؟ أم أن هذا الفصل المظلم في تاريخ الشعب الفلسطيني سيفتح باباً لنضال دولي جديد من أجل العدالة والحرية؟
أياً يكُن، القضية ليست فقط في عدد الشهداء أو حجم الدمار، بل في استمرارية الاحتلال الإسرائيلي وسعيه إلى تفتيت الهوية الفلسطينية. ولكن رغم ذلك، ورغم الجروح النازفة، سيبقى الشعب الفلسطيني يقاوم، وستظل غزة، بجنوبها وشمالها، رمزاً للصمود والتحدي في وجه آلة الحرب الإسرائيلية.