عاد الاتحاد الأفريقي، قبل نهاية أيار، إلى الانخراط في جهود حلحلة الأزمة في السودان، بعدما أفسح المجال لوساطة سعودية - أميركية، لم تُحقّق سوى هدن أسبوعية، انتهت عملياً أمس بإعلان الجيش السوداني، رسمياً، خروجه من محادثات جدة (31 أيار). وجاء تحرّك الاتحاد عبر صياغة «خريطة طريق» - نُظر إليها على أنها مضادّة لمبادرة واشنطن والرياض -، تدعو إلى تسهيل وصول المساعدات الإنسانية، ومنع التدخّل الخارجي في الشؤون السودانية، وإشراك جميع الأطراف السودانية في الحلّ.
«حلول أفريقية لمشكلات أفريقية»
تمّ تبنّي خريطة طريق الاتحاد الأفريقي لتسوية الأزمة في السودان في الأسبوع الأخير من أيار (وأُعلن عنها في الـ28 منه)، وهي تضمّنت ستّة عناصر من بينها تأسيس آلية تنسيق لضمان تحقيق التناغم والفاعلية بين جهود جميع الفاعلين الإقليميين والدوليين؛ وتحقيق وقف فوري ودائم وشامل للأعمال العدائية؛ ووضع استجابة إنسانية فعّالة. كما شدّد الاتحاد على أهمّية إطلاق عملية سلام واحدة وشاملة ومعزّزة، تحت رعاية مشتركة منه ومن «الهيئة الحكومية للتنمية» (إيغاد)، وأيضاً «جامعة الدول العربية» والأمم المتحدة و«الشركاء المشابهين»، بحسب بيان «مجلس السلم والأمن الأفريقي».
واعتُبرت الخريطة الأفريقية، من وجهة نظر البعض، خطوة في الطريق الصحيح، لاعتبارات من بينها احتمال إنجازها اتّفاقاً أفضل وأكثر استقراراً ممّا قد تفرزه الوساطات غير الأفريقية. على أن العامل الحاسم في هذه المقارنة، يبقى قدرة الاتحاد على جمع دول جوار السودان السبع في مسار «وساطي» واحد، يتيح لها التعبير عن مخاوفها من تداعيات الصراع وإمكانات مساهمتها في تحجيمه أو تسويته. كما أن حياده في الأزمة يعزّز مقبوليّته لدى الأطراف المتصارعة، والنظر إليه كعامل في استعادة الأمن والاستقرار في السودان ودول الجوار والمناطق المتضرّرة (مِن مِثل إقليم الساحل)، خلافاً للوساطة السعودية - الأميركية التي ظلّت تتحرّك لاعتبارات المصالح المباشرة للرياض وواشنطن.
وما قد يعزّز حظوظ الوساطة الأفريقية، إعلان مالك عقار، نائب رئيس «مجلس السيادة» (29 أيار)، حاجة بلاده إلى عملية سلام جادّة بالتنسيق مع الشركاء الأفارقة تحت مظلّة الآلية الرئاسية التي أقرّتها «إيغاد»، وتشمل رؤساء جنوب السودان وكينيا وجيبوتي بمشاركة الاتحاد الأفريقي (وتحظى بدعم كبير من القاهرة). وفسّر عقار موقفه بضرورة «تفادي تعدّد المنصّات والمبادرات مستقبلاً»، مشدّداً أيضاً على أهمّية تلافي «أيّ تفاهمات متعجّلة لتقاسم السلطة». أمّا قادة قوات «الدعم السريع»، فهم سعوا بالفعل، في الأسابيع الماضية، لنقل وجهات نظرهم إلى رئيسَي جنوب السودان وأوغندا.
ويتّضح، ممّا تَقدّم، أن ثمّة الآن مسارَين متقاربَين: خريطة طريق الاتحاد الأفريقي والتي تدعو إلى مشاركة مباشرة وأكثر فاعلية لدول جوار السودان (وبينها إريتريا وإثيوبيا وجنوب السودان)؛ ومسار الآلية الرئاسية الثلاثية تحت مظلّة «إيغاد»، وكلاهما ينطلقان، بغضّ النظر عن جدّية مخرجاتهما المرتقبة، من شعار الاتحاد: «حلول أفريقية للمشكلات الأفريقية»، ومبادرة «إسكات البنادق».
كان للاتحاد الأفريقي دور كبير في هندسة مسار استقلال جنوب السودان عن السودان في عام 2011


البرهان و«حميدتي» ومآزق تسديد الفواتير
جاءت مبادرة الاتحاد الأفريقي في توقيت يواجه فيه قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، اتّهامات من أطراف مختلفة، إمّا بالعجز عن حسم الصراع مع نائبه السابق في «مجلس السيادة»، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، أو انصياعه الكامل لمطالب القوى الإسلامية (وهي مقولة تردّدها راهناً أطراف معارضة بالأساس للبرهان، وتلقّفتها وسائل إعلام غربية بشكل ملفت)، وآخرها الدعوة إلى استبعاد المبعوث الأممي، بيرتيس فولكر، وفق خطاب رسمي أرسله البرهان إلى الأمم المتحدة (26 أيار) على خلفية اتّهام الأول بـ«التدخّل الخارجي في شؤون السودان»، وتحيّزه إلى «حميدتي»، ونقله صورة مضلّلة عن الوضع، في اتّهامات طالما كرّرت أغلبها القوى الإسلامية منذ مطلع العام الجاري. لكن بالنظر إلى نصّ خطاب البرهان المذكور، فإنه استند إلى مبرّرات تتجاوز مطالب الإسلاميين بالفعل، مِن مِثل وصفه سلوك بيرتيس بالغريب طوال الفترة الانتقالية، ولا سيما «ردوده إزاء التطوّرات السياسية في السودان منذ وصوله إليه في شباط 2021»، وهو تقديرٌ يلقى في الواقع تأييداً من الصين، ومن روسيا بدرجة أقلّ. على أنه في مقابل الاتّهامات المُوجّهة للبرهان، نال الرجل أخيراً دعماً لافتاً من تركيا عقب إعلان فوز رجب طيب إردوغان برئاستها، فيما يظلّ موقف السعودية منه متذبذباً (بالنظر إلى حسابات الرياض بالغة التعقيد)، في انتظار بروز وجه سوداني جديد ربّما، قادر على تصدّر المشهد السياسي، ولا سيما في ظلّ ما تراه من المملكة من ميل لدى قائد الجيش إلى تبنّي سياسات عمر البشير. أمّا «حميدتي»، فيبقى رهانه على الضغوط الإقليمية التي تمارسها الدول الداعمة لمشروعه، أملاً في ضمان مصالحها التي تهدّدت جدّياً جرّاء الأزمة الراهنة (وفي مقدّمتها الإمارات وإثيوبيا وإريتريا، وربّما السعودية التي كانت راعية لمحادثات جدة قبل تداعيها). لا بل إن مسار الاتحاد الأفريقي نفسه قد يمنح دقلو «قبلة الحياة» بأقلّ تكلفة ممكنة، بالنظر إلى الدور الإثيوبي المرتقَب فيه، ولو بشكل غير مباشر كما جرت العادة في الاتحاد (وتحديداً على مستوى سياساته تجاه الصومال، والسودان، وأزمة إقليم تيغراي).

خريطة الطريق الأفريقية: الفرص والتهديدات
كان للاتحاد الأفريقي دور كبير في هندسة مسار استقلال جنوب السودان عن السودان في عام 2011، عبر توظيف أدوار عدد من القادة البارزين في القارة لصالح تعميق هذا المسار وتسويته على النحو الذي جرى قبل أكثر من عقد. وتبدو حظوظ دور الاتحاد معقولة حالياً، في ضوء استنفاد الوساطة السعودية - الأميركية جهودها، وعجزها عن - وربّما عدم رغبتها في - الضغط على أطراف الأزمة، وانتهاء الأمر إلى انفتاح الباب على تصعيد عسكري كبير جديد، سبق للبرهان أن هدّد به أوّل من أمس، قبل تعليقه مشاركته في محادثات جدة.
وتتمثّل أهمّ فرص خريطة الطريق الأفريقية، بغضّ النظر عن التباين بين مسارَي الاتحاد و«إيغاد»، في مقبوليّة الدور الأفريقي بشكل عام سودانياً، وتمتّعه بقدر أقلّ من الحساسية إزاء «التدخّل الخارجي»، فضلاً عن أن الخريطة نفسها يمكن أن تمثّل عودة غير مباشرة إلى أطروحات جنوب السودان (والتي حظيت بدعم مصري منذ لحظاتها الأولى) وجيبوتي تحديداً، ما يعزّز فرص نجاحها. كما يُتوقّع أن تدعم إثيوبيا، التي تتمتّع بتأثير نافذ يفوق قدراتها الحقيقية في مؤسّستَي الاتحاد الأفريقي و«إيغاد»، هذه الخريطة، على الأقلّ من باب ضمان دورها في الشأن السوداني، والذي تآكل منذ انقلاب تشرين الأول 2021. في المقابل، ثمّة تهديدات واضحة، أهمّها عدم قدرة الاتحاد الأفريقي - حال قبول خريطته - على صياغة آلية لتطبيق هذه الخريطة، ولا سيما في شقّها العسكري والأمني، خصوصاً في ظلّ استبعاد كامل لمصر وإثيوبيا من مِثل هذه الترتيبات لاعتبارات حساسية موقفهما. كما تمثّل الجهود التي تقوم بها الدول الداعمة لـ«حميدتي» تهديداً للخريطة الأفريقية، في حال ميلان هذه الأخيرة إلى دعم مؤسّسة الجيش، واعتبارها دقلو وقوّاته «طرفاً متمرّداً».
وبالإجمال، فإن خريطة طريق الاتحاد الأفريقي قد تمثّل مجرّد حلقة أخرى في سلسلة الوساطات. ولعلّ ما يدلّ على ذلك، مواجهة المؤسّسة الأفريقية نفسها انتقادات لاذعة عقب إعلان عدد من قادة القارة عزمهم التوسّط في الأزمة الروسية - الأوكرانية، في وقت يعجز فيه الاتحاد عن التدخّل في أزمات طاحنة داخل أفريقيا نفسها - مِن مِثل أزمة إقليم تيغراي التي راح ضحيتها مئات الآلاف من المواطنين الإثيوبيين، وأخيراً أزمة السودان -، مكتفياً فقط بمراقبة مواقف الأطراف الدولية والإقليمية غير الأفريقية بالأساس، ما يُعدّ مؤشّراً واضحاً إلى حدود وآفاق مبادرة الاتحاد بخصوص السودان.