بين قراءات متسرّعة للمرحلة الانتقالية ومتطلّباتها منذ عزل الرئيس السودان السابق، عمر البشير، وعجز عن حشد مواقف وطنية «جامعة» لإدارة حَراك 2018 بتداعياته في الأعوام التالية، وقع المكوّن المدني في مآزق خوض حروب جانبية متلاحقة، خصمت كثيراً من زخمه وتماسكه، وصولاً إلى انسداد رؤيوي واضح في مرحلة ما قبل 15 نيسان مباشرة. انسدادٌ قام بالأساس على مناورة «مجلس السيادة»، وحصر تصوّر مستقبل السودان الديموقراطي في قضايا من قَبيل القضاء على قوى الإسلام السياسي، وتفعيل «لجنة إزالة التمكين»، وفرْض إقصاء سياسي على الخصوم بدعم مبالَغ فيه من قِبل عدد من شركاء السودان الدوليين ودول الجوار، أفضى في النهاية إلى تهميش متصاعد لتأثير المكوّن المدني في مجريات الصراع المفتوح، منذ أكثر من شهر، بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع».
ما بعد «الاتفاق الإطاري»
كان ملحوظاً، في الأسابيع الأخيرة قبل اندلاع الأزمة، اصطفاف المكوّن المدني، الذي بات مختزَلاً في القوى الموقّعة على «الاتفاق الإطاري»، خلف رؤى قائد قوات «الدعم السريع»، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بخصوص نقل السلطة، وإنجاز الاتفاق السياسي النهائي، وإقامة المؤسّسات الانتقالية المترتّبة عليه، وخروج الجيش من السياسة، على قاعدة أن الأخير بات الباب الواسع لعودة «الفلول». ولم تقدّم هذه القوى في المقابل رؤية وسطيّة لحلحلة أزمة ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، ومالت إلى تصوّر «حميدتي» القاضي بتمديد فترة دمج قواته في الجيش، لتتجاوز المرحلة الانتقالية ذاتها زمنياً. وعبر هذا الموقف، عجز المدنيون عن تحقيق اختراق في الاستقطاب بين البرهان و«حميدتي» لصالح تيّار وطني أكثر شمولاً. وتزايد عجز المكوّن المدني، الذي اختفت قياداته تقريباً بعد اندلاع الصراع منتصف نيسان الماضي، ولا سيما ياسر عرمان، رئيس «الحركة الشعبية» (التيار الثوري الديموقراطي) ومعاونيه، عن التأثير في المشهد، على رغم بيانات عديدة دانت الاقتتال، ولم تفلح في إبراز موقف محدّد، بقدر ما ركّزت على اتّهام عناصر الإسلام السياسي «الكيزان» بتغذية هذه الأزمة.
ويتّضح مأزق المدنيين، أكثر، في تجاوز الأحداث، دعوات عرمان قبل نحو شهر إلى تشكيل «جبهة مدنية صلبة» لإعادة الحُكم الديموقراطي، وكذلك إعلان نحو 60 تنظيماً مدنياً من أحزاب ونقابات و«لجان مقاومة»، التوجّه إلى تشكيل آلية لتنسيق المواقف لم تتبلور بعد، على رغم مرور قرابة الشهر على ذلك الإعلان. وكان لافتاً تبنّي قوى «الاتفاق الإطاري» تحديداً، سردية مبسّطة للأزمة، تقوم على فكرة أن «الفلول» وقوى «الإسلام السياسي» هي المحرّكة للصراع، من دون الالتفات إلى جذور هذا الأخير، ومن بينها هوية «الدعم السريع» التي كوّنها البشير لتعزيز نظامه، ومدى إسهام أنشطتها في تآكل بناء الدولة. وسبق لتلك القوى أن طرحت إمكانية أن تكون «الدعم»، «نواة لجيش سوداني جديد»، وهو ما فُسّر لدى البعض على أنه رغبة في تفكيك الجيش الحالي، وليس عزله عن المسار السياسي فحسب، وتجاهلٌ، لأسباب حزبية، لخطورة هذا المسار على مستقبل السودان، واحتمال إفضائه إلى تقسيم البلاد فعلياً.

تحوّلات المدنيين: رؤية من الداخل
كشفت الأزمة الحالية عن عوار المرحلة الانتقالية برمّتها، وصعوبة تكوين تيار وطني مدني واسع يقدّم رؤى واضحة لمستقبل البلاد. لكن التطوّر البارز بدأ يتّضح أخيراً في ارتفاع أصوات سودانية، سياسية وأكاديمية وحتى ممثّلة لجاليات سودانية في الخارج، تحاول موازنة الأمور، وإرجاع جذور الأزمة إلى تعقيدات حقيقية تشوب الممارسة السياسية السودانية بالعموم، وهو ما ظهر حتى في «الاتفاق الإطاري» وفكرة المحاصصات التي غلبت عليه. لكنّ آخرين رأوا أن الصراع الحالي في الأساس هو صراع بين «قطبَي نظام البشير»، ومن ثمّ فإن «حميدتي» يمثّل الدولة العميقة، وليس حامل لواء التحوّل الديموقراطي كما اعتقدت قوى «الإطاري». كما أن الصراع نفسه بات مرآة لصراعات إقليمية، يرفض أطرافها أيّ تحوّل ديموقراطي حقيقي في السودان، ولا سيما إذا ما أُخذت في الاعتبار ضغوط قوى الوساطة الإقليمية الحالية على المكوّن المدني لقبول ما عُرف باتفاق تقاسم السلطة وسط ذروة الدعم الشعبي لحكم مدني.
قلّلت أصوات مدنية من توقّعاتها إزاء العملية السياسية الحالية المتبلورة في «محادثات جدة»


ويلفت في خطاب القوى المدنية، في إطارها الواسع الذي يتجاوز قوى «الإطاري»، علوّ حدّة النقد لـ«حميدتي» وقواته، إلى جانب انتقادات تقليدية توجَّه إلى الجيش الذي «اختُرق من قِبل جماعة الإخوان المسلمين» خلال عهد عمر البشير. ويمثّل هذا الانتقاد عودة تدريجية إلى قراءة أكثر وعياً بالأزمة، وتفادي المناورات السياسية الضيقة، والتي طالما انتقدتها أطراف سودانية خرجت منذ مطلع العام الجاري، من مظلّة قوى «الإطاري»، التي ركّزت على مكاسب «انتقالية» قصيرة الأجل، ولم تلقِ بالاً لخطورة التسوية التي كانت قائمة قبل 15 نيسان، على مجمل مستقبل السودان وتكريسها حالة استقطاب سياسي حادّ.
كذلك، قلّلت أصوات مدنية من توقّعاتها إزاء العملية السياسية الحالية المتبلورة في «محادثات جدة»، وباتت تنظر بشكل أكبر إلى ما بعد نهاية هذا الصراع؛ ومن ثمّ فإنها لم تعُد تعوّل على أيّ مشاركة في هذه المحادثات أو ما سيترتّب عليها، وتتطلّع في الأساس إلى تسوية جديدة تماماً، أكثر شمولية وواقعية، عمادها قناعة تتزايد يوماً بعد يوم، بضرورة عدم المساس بالمؤسّسة العسكرية كحامية للدولة السودانية، مع ضرورة الإصلاح التدريجي لها، ونزع توجّهاتها الإيديولوجية «الإسلاموية»، وإعادة ضبط العلاقات العسكرية - المدنية بالعموم.
      
المكوّن المدني والتسوية: آفاق جديدة؟
فيما تتسارع المواجهات العسكرية بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع»، بدا أن القوى المدنية أعادت بالفعل ترتيب عدد من أوراقها. ويمكن التمييز هنا بين توجّهَين رئيسَين: أوّلهما يرى بضرورة النظر إلى الأزمة كتهديد لمستقبل البلاد واستقرارها، ومن ثمّ العمل على إطلاق عملية سياسية شاملة بأهداف وطنية واضحة، تقوم في الأساس على إجماع سوداني وليس الارتباط بمواقف إقليمية ودولية، وتحديداً في ما يخصّ خريطة الطريق لإقامة مؤسّسات الانتقال الديموقراطي وفق المسار «الطبيعي»، أي عبر التمييز بين تلك المؤسّسات كوسائط للانتقال السليم، وبين أبنية وهياكل الدولة المستدامة في نهاية هذا الانتقال، والتي ستتولّى وضع شكل الدولة السودانية بتفويض شعبي مباشر ونزيه. أمّا التوجّه الآخر، فإنه يقوم على فكرة التأسيس «لجمهورية سودانية ثانية»، عبر تبنّي نظام نيابي كامل، عقب تطبيق خريطة طريق موجزة يتمّ وضعها بالتنسيق بين «مجلس السيادة» والقوى المدنية التي تقبل بمبادئ الشمول السياسي. 
ويبدو هذا التوجّه الأخير متلاقياً - بشكل غير مقصود ربّما - مع التطوّرات الأخيرة التي شملت إقالة «حميدتي» رسمياً من منصبه كنائب للبرهان في رئاسة «مجلس السيادة»، وحركة التغييرات التي شملت تعيين شمس الدين الكباشي نائباً لقائد الجيش، وياسر العطا وإبراهيم كريمة مساعدَين للقائد العام للقوات المسلحة (19 أيار)، الأمر الذي اعتبره مراقبون مؤشّراً إلى بدء عودة تدريجية للمكوّن العسكري إلى ثكناته، وانفتاح الباب على الحلّ السياسي. وعزّز ذلك التقدير أيضاً، صدور بيان عن عدد من «حكماء السودان» يتضمّن دعوة إلى وقف الحرب، وتأكيد مالك عقار، نائب رئيس «مجلس السيادة»، في بيان منفصل (20 أيار)، عزمه والنظام العمل على «استكمال مسار التحوّل المدني الديموقراطي» على أسس تضمن مشاركة جميع السودانيين «من دون إقصاء».  
وعلى رغم وجاهة هاتَين الرؤيتَين، فإنهما لا تحجبان وجود أزمة ثقة ما بين أصحابهما والجيش؛ إذ إن خروج الأخير منتصراً من الحرب سيعزّر مواقفه التفاوضية (وإنْ كان متوقّعاً لجوء البرهان إلى سياسات احتواء مرحلية للقوى المدنية، للبناء على «شعبيته» السياسية المكتسبة أخيراً، وتفادياً للانتقادات الدولية). كما أن الدعم السياسي الذي حصل عليه البرهان من قوى الإسلام السياسي وأنصار النظام السابق، يؤشّر إلى وجود حاضنة سياسية موسّعة لأجندته مستقبلاً.
     
خلاصة 
تبدو القوى المدنية في السودان أمام تحدّي الاستجابة الملائمة لأيّ عملية سياسية قادمة، وربما خارج مظلّة محادثات جدة الراهنة، والتي تتّسم ببطء بالغ فرّغها تقريباً من أيّ مضمون. وفي الانتظار، فإن التغيّر الراهن في الرؤى المدنية، نحو تبنّي مواقف أكثر اتّزاناً وواقعية، يشير إلى احتمال التوصّل إلى إجماع وطني (مدني أو سياسي)، يمهّد لعملية سياسية تتجاوز - في حدّها الأدنى - مثالب تجربة «الاتفاق الإطاري»، وتتيح ربّما إضعاف سياسات المحاصصات المتعاكسة وطموحات الشعب السوداني.