وجدت موسكو وطهران، أخيراً، آليّة توافقيّة لفتح الأبواب المغلقة بين دمشق وأنقرة، خلال لقاء هو الأوّل من نوعه منذ نحو 12 عاماً على مستوى وزراء خارجية الرباعية (روسيا وإيران وسوريا وتركيا)، جمع وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، إلى نظيره التركي مولود تشاووش أوغلو، على طاولة واحدة. ويسبق اللقاء بأيام قليلة انتخابات تركية مصيرية، يشكّل الملفّ السوري أحد أبرز عناوينها، فيما يشرّع الأبواب أمام خطوات عديدة لاحقة على مستوى العلاقات بين البلدَين، من شأنها أن تجعل الطموح التركي إلى لقاء يجمع رجب طيب إردوغان إلى نظيره السوري بشار الأسد، مسألة ممكنة
بعد مداولات عديدة، ووساطات مستمرّة، أدّت فيها روسيا وإيران دوراً محوريّاً، اجتمع وزيرا خارجية سوريا وتركيا في موسكو، إلى جانب نظيرَيهما الروسي والإيراني، في أوّل لقاء من نوعه تولّد من جهود البلدَين الوسيطَين لتشريع الأبواب بين دمشق وأنقرة، بعد سنوات من القطيعة، خرقتها، أخيراً، سلسلة لقاءات على مستويات أمنية وعسكرية، وأخرى على مستوى نواب وزراء الخارجية لم تصل إلى نتائج يمكن البناء عليها. وسبقت اللقاء الذي تواصل على مدى أربع ساعات، تصريحاتٌ سورية حازمة حيال مسألة الوجود التركي غير الشرعي في الشمال السوري، وضرورة أن يفضي الاجتماع إلى انسحاب هذه القوات، ووقْف دعم الفصائل. في المقابل، ركّزت التصريحات التركية على وجود مخاوف أمنية تتطلّب جهوداً مشتركة لمواجهتها، فيما أعرب الوزير التركي، مولود تشاووش أوغلو، عن أمله بعقْد لقاء يجمع الرئيسَين خلال الفترة المقبلة.
وافتتح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الاجتماع الرباعي، بكلمة حدّد فيها إطاراً لخريطة طريق يمكن المضيّ قُدُماً استناداً إليها، ركّزت في فحواها على مسألتَين توافقيّتَين: الوجود الأميركي غير الشرعي في سوريا الذي يدعم فصائل عديدة تشكّل خطراً على دمشق وأنقرة، والمسألة الاقتصادية المهمّة بالنسبة إلى الجارتَين، وخصوصاً طرق الترانزيت المغلقة. وهي نقاط أبدى وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، انفتاحاً إزاءها، مشيراً إلى (أننا) أمام «صيغة جديدة مختلفة نأمل أن تكون أكثر ديناميكية في التعامل مع مختلف القضايا التي تهمّنا»، بعدما أفضت الجهود السابقة، وفق «مسار أستانا»، إلى «العديد من النتائج الإيجابية على الأرض». من جهته، أشار الوزير الروسي، أكثر من مرّة، إلى مخاطر الوجود الأميركي في سوريا، لافتاً إلى أن «الأميركيين بدأوا بتشكيل مجموعات إرهابية في محيط الرقة بمشاركة تنظيم «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية، بهدف استخدامهم لزعزعة استقرار الوضع في سوريا، في انتهاك للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة»، مضيفاً إن وزراء دفاع الدول الأربع بحثوا هذه القضيّة أخيراً. كما أعاد تأكيد رفض بلاده الإجراءات الاقتصادية الغربية غير الشرعية المفروضة على سوريا، والتي تزعزع الاقتصاد وتعيق إيصال المساعدات الإنسانية إلى محتاجيها، وخاصة في أعقاب كارثة الزلزال. أمّا المقداد، فذكّر بـ«ثوابت» سوريا وهدفها من هذا اللقاء، مشدّداً على أنه «من دون إنهاء الوجود العسكري غير الشرعي على الأراضي السورية، لن نصل إلى أيّ نتيجة»، مبدياً استعداد بلاده للانخراط «بشكل منفتح وبنّاء انطلاقاً من اقتناعها الدائم بأن الحوار والنقاش هما السبيل الأفضل للوصول إلى الأهداف المرجوة»، مضيفاً إن سوريا ترى أن «هناك فرصة سانحة للعمل المُشترك مع أنقرة».
بدوره، أعرب وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، عن تقديره لـ«الحنكة التي انتهجتها قيادة الجمهورية التركية والجمهورية العربية السورية، والتي وفّرت أرضيّة هذا الاجتماع باختيارهما طريق التفاعل والحوار»، معتبراً أن الظروف الدولية الحالية «تشهد على عملية الانتقال في النظام العالمي، وتراجع القوّة الأميركية وتعزيز الإقليمية (...) لم تَعُد القوى التقليدية في العالم قادرة على فرض آرائها والتصرّف بشكل انفرادي كما في الماضي، الأمر الذي أتاح فرصة لحلّ مشاكل الجمهورية العربية السورية بالنضج والمبادرات السياسية وضمان الأمن والاستقرار والتنمية في هذا البلد والمنطقة». وأشار إلى أن التجربة «أظهرت أن اللجوء إلى العمل العسكري لا يساعد في حلّ المشاكل، وبالإضافة إلى إلحاقه خسائر بشرية ومادية فإنه يعقّد الخلافات القائمة».
اللقاء الذي سبقه لقاء ثنائي سوري - إيراني، وتلاه آخر سوري - روسي، خلص، في بيانه الختامي إلى ثلاث نقاط رئيسة تفتح الباب أمام عمل مستمرّ لوضع أجندة لعملية التطبيع. إذ تضمّن، بعد التأكيد على محاربة الإرهاب وسيادة سوريا، تكليف نواب وزراء الخارجية بإعداد خريطة طريق لتطوير العلاقات بين دمشق وأنقرة، والاتفاق على مواصلة الاتصالات الرفيعة المستوى، وهو ما يفتح الباب أمام مزيد من اللقاءات على مستويات سياسية رفيعة، بما فيها لقاء على المستوى الرئاسي. وجاء الموقف السوري المنفتح على الاجتماع، بعد إعلان متكرّر حول عدم جدوى الجلوس إلى طاولة الحوار ما لم ينتهِ الأمر إلى خروج القوات غير الشرعية من سوريا، في مقابل إصرار تركيا على ربط وجودها العسكري بالتهديدات الأمنية المتمثّلة بـ«حزب الاتحاد الديموقراطي» الذي يقود الإدارة الذاتية و«قوات سوريا الديموقراطية»، وتعتبره أنقرة امتداداً لـ«حزب العمال الكردستاني». ويبدو أن الموقف السوري هذا أتى نتيجة وساطة أدّت فيها إيران - التي زار رئيسها سوريا الأسبوع الماضي، حيث أجرى لقاء مع نظيره بشار الأسد -، دوراً مؤثّراً، أسّس بشكل حقيقي لتفاهمات مبدئية استكملت موسكو رسمها للخروج بنتائج إيجابية، وخصوصاً أن دمشق أبدت تفهّماً لجهة عدم إمكانية انسحاب القوات التركية بشكل فوري، على أن يتمّ هذا الانسحاب وفق جدول زمني واضح، وضمن أجندة متّفق عليها، تعيد تموضع القوات السورية في الشمال السوري لمنع أيّ فراغ أمني. ويتطلّب ذلك عملاً مستمرّاً لحلّ جملة من المسائل العالقة، على رأسها مسألة إدلب، حيث تتمركز فصائل متشدّدة عدّة تقودها «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً)، علماً أن هذه المسألة ترتبط بشكل وثيق بمسألة الانفتاح الاقتصادي التي طرحتها روسيا في ما يتعلّق بإعادة فتح خطوط الترانزيت، حيث يُعدّ معبر باب الهوى المعبر الأبرز لمرور شاحنات الترانزيت، ما يعني أنّ إجراءً كهذا يتطلب إخراج «الهيئة» من إدلب، وفتح طريق حلب - اللاذقية (M4) المغلق، وهو طرح كانت قد قدّمته تركيا خلال لقاءات سابقة.
بشكل عام، يمكن النظر إلى الاجتماع، الذي تخلّله التقاط صور تجمع وزراء خارجية الدول الأربع، على أنه ورقة إضافية في يد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في الانتخابات الحاسمة في بلاده. وفي مقابل إعلان سوريا عدم اهتمامها بنتائج الانتخابات، وتوجيهها الاهتمام إلى النتائج المرجوّة من هذه الاجتماعات، والمتمثّلة بوضع خطّة لخروج القوات التركية، وحلّ جملة المشاكل التي تسبّب بها التدخّل التركي في الحرب السورية، سواء مسألة اللاجئين، أو مسألة المياه، لا يمكن الحكم على نتائج اجتماع أمس إلا بعد وضع خريطة طريق توافقية يمكن تنفيذها ضمن جدول زمني محدّد، تتضمّن بشكل واضح سحب القوات التركية من سوريا.