لفتت تصريحات السفير السعودي لدى المملكة المتحدة، خالد بن بندر (28 نيسان)، حول عمل بلاده على وقف إطلاق النار واستعادة الحُكم المدني في السودان، الأنظار إلى صياغةٍ باتت مرجّحة - في الأيام المقبلة - لوساطة سعودية بالتعاون مع الولايات المتحدة، وجهد مرتقب لمصر في ضمان أقصى مقبولية ممكنة للوساطة لدى أطراف الأزمة. وتقوم رؤية بندر في الأساس على تطوير مرحلي للوساطة، من وقف دائم لإطلاق النار إلى حوار سياسي وصولاً إلى «الضغط على الجيش لعودة الحُكم المدني بصيغة ما»، مع ملاحظة واقعيّة بأنه من السابق لأوانه الحديث عن ضغط على «الجانبَين العسكريَّين للمشاركة في السلطة»، وأنه لا يوجد حلٌّ مثالي، لكن الغاية النهائية (للوساطة السعودية) هي الأمن والاستقرار، ممّا كشفه منذ البدء أفقها وحدودها.
لفتت تصريحات السفير السعودي لدى المملكة المتحدة، خالد بن بندر (28 نيسان)، حول عمل بلاده على وقف إطلاق النار واستعادة الحُكم المدني في السودان، الأنظار إلى صياغةٍ باتت مرجّحة - في الأيام المقبلة - لوساطة سعودية بالتعاون مع الولايات المتحدة، وجهد مرتقب لمصر في ضمان أقصى مقبولية ممكنة للوساطة لدى أطراف الأزمة. وتقوم رؤية بندر في الأساس على تطوير مرحلي للوساطة، من وقف دائم لإطلاق النار إلى حوار سياسي وصولاً إلى «الضغط على الجيش لعودة الحُكم المدني بصيغة ما»، مع ملاحظة واقعيّة بأنه من السابق لأوانه الحديث عن ضغط على «الجانبَين العسكريَّين للمشاركة في السلطة»، وأنه لا يوجد حلٌّ مثالي، لكن الغاية النهائية (للوساطة السعودية) هي الأمن والاستقرار، ممّا كشفه منذ البدء أفقها وحدودها.

النفوذ السعودي في السودان: توازن اقتصادي وسياسي
تعاظَم النفوذ السعودي في السودان، خلال السنوات الأخيرة، على مستويات مختلفة، ولم يشكّل سقوط نظام عمر البشير، الذي نجح في إدارة توازنات بلاده الإقليمية الصعبة ببراغماتية ناجعة، من مِثل تمتين علاقاته مع الرياض والدوحة في خضمّ الأزمة الخليجية، تراجعاً خطيراً في تأثير المملكة. ويلاحَظ أنه، وعلى رغم تراجع عدد الجنود السودانيين المشاركين في حرب اليمن (التي كانت الرافعة الأساسية لتعزيز العلاقات بين الرياض والخرطوم) بعد سقوط البشير مباشرة، من 15 ألف جندي إلى خمسة آلاف، بحسب تقديرات أميركية، فإن سياسة السعودية في السودان حقّقت دفعة جديدة مع توجّهات وليّ العهد، محمد بن سلمان، وصياغته ما عُرفت بـ«رؤية 2030» التي شملت دور بلاده في إقليمها.
وحضر السودان، الذي لا يوجّه إلّا نحو 6.3% من صادراته البالغة في عام 2021 نحو 5.45 مليارات دولار (أكثر من نصفها صادرات ذهب) إلى السعودية مقارنة بـ53.3% للإمارات و14.3% للصين، ضمن سياقات «الرؤية» لجهة ضخّ استثمارات في دول عدّة لأغراض استراتيجية واقتصادية معاً؛ إذ أُعلن، نهاية العام الماضي، عن عزم «صندوق الاستثمارات العامة» شمول السودان في خطّته القاضية بضخّ استثمارات بقيمة 24 مليار دولار عبر ست شركات في خمس دول عربية، على أن يُوجَّه الاستثمار في اتّجاه قطاعات متنوّعة مثل البنية الأساسية والتنمية العقارية والتعدين والرعاية الصحية والخدمات المالية والزراعة والتصنيع وغيرها، توفّر في مجملها، بحسب «الرؤية»، أداة لتنويع اقتصاد المملكة والاستعداد «لعصر ما بعد المحروقات». وتعهّد ولي العهد السعودي، قبيل اجتماع مع رئيس «مجلس السيادة» في السودان، عبد الفتاح البرهان، في تشرين الثاني 2022، بضخّ 3 مليارات دولار استثمارات لـ«صندوق الاستثمار العام»، تمثّل نحو ثلاثة أضعاف استثمارات المملكة في هذا البلد في عام 2021. ويبدو أن هذه الخطط تسير على قدم وساق، إذ أعلن ابن سلمان، منتصف نيسان الماضي، تحويل 4% من أسهم شركة «أرامكو» من ملكية الدولة إلى شركة «سنابل» للاستثمارات (الذراع الاستثمارية لـ«صندوق الثروة السيادي» الذي بات يمتلك 8% من إجمالي أسهم عملاق النفط، بقيمة عشرات مليارات الدولارات)، ما سيعزّز قدرة الصندوق على تنفيذ خططه في السودان.
وعلى صعيد التأثير السياسي، راكمت السعودية حضوراً كبيراً، سواء من خلال العلاقات الثنائية مع البرهان، أو الانخراط البارز في الجهود الدولية لمقاربة الأزمة عبر لعب دور مؤثّر في «الرباعية الدولية» التي مزجت منذ تكوينها، ولا سيما بعد انقلاب تشرين الأول 2021، الروافع الاقتصادية والسياسية لتوجيه المرحلة الانتقالية.

الوساطة السعودية: الديناميات والآفاق
تزايدت، مطلع أيار الجاري، آمال عقْد لقاء بين طرفَي الأزمة في محادثات سلام في السعودية، بحسب تصريحات المبعوث الأممي، فولكر بيرتس، الذي توقّع أن يكون أفق هذه المفاوضات، التركيز - مبدئيّاً - على إرساء وقف إطلاق نار «مستقرّ ويعوَّل عليه»، على رغم استمرار وجود تحدّيات أمام مثل هذا التطوّر. لكنّ الملحّ في هذه المساعي، هو ارتباطها الوثيق بالجهود الأميركية، وتزامنها مع طرْح مصر مشروع قرار خلال الاجتماع الطارئ لـ«جامعة الدول العربية» (الأول من أيار)، يدعو إلى «وقف فوري وشامل» للقتال، من دون أيّ إشارة إلى المرحلة التي ستعقبه. وعزّزت الرياض مساعيها في إنجاح وساطتها بتواصل مع جزر القمر، الرئيس الحالي لـ«الاتحاد الأفريقي»، ومع رئيس مفوّضية الأخير، موسى فقي (2 أيار)، من أجل توفير غطاء «أفريقي» للوساطة، فيما ركّزت مداولاتها مع الجانبَين على بند وقف إطلاق النار، ما يرجّح أن تدور الوساطة حوله في الأساس، مع جنوح إلى تهميش دور قوات «الدعم السريع» في التسويات السياسية التي قد تلي النجاح في تهدئة دائمة، وفي ظلّ مؤشّرات إيجابية عبّر عنها الاتفاق على هدنة تستمرّ أسبوعاً (4 - 11 أيار)، بحسب ما أعلنت الخارجية الجنوب سودانية. وأكّد بيان القوات المسلحة السودانية (3 أيار) بخصوص مقترح «إيغاد» للتعامل مع الأزمة بتمديد الهدنة وتسمية ممثّل عن كلّ جانب للتباحث حولها مع «الآلية» الرفيعة المستوى المكوّنة من رؤساء كلّ من جمهورية جنوب السودان وكينيا وجيبوتي، قبول الهدنة «انطلاقاً من مبدأ الحلول الأفريقية لقضايا القارة».
تزامنت جهود الوساطة السعودية مع دورها البارز في إجلاء آلاف العالقين في السودان من ميناء بورتسودان إلى مدينة جدة


وتبدو فرص الوساطة السعودية أكثر رجحاناً في وقت تدافعت فيه وساطات مختلفة كان من أحدثها عرض الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بحسب مصادر إخبارية سودانية، استضافة بلاده محادثات مباشرة بين البرهان وحميدتي، بينما شكّ: مراقبون بجدّية هذا العرض، وسط ترقُّب تركيا انتخابات مهمّة يوم 14 الجاري.
وفيما تواجه مصر ضغوطاً مختلفة لاتّباع مقاربة أكثر وضوحاً وحسماً تجاه الأزمة في السودان، فهي حضرت في كواليس المبادرة السعودية، على رغم التحوّل من الحديث عن مبادرة «سعودية - مصرية» إلى «أميركية - سعودية». ودلّ على الدور المصري في الوساطة السعودية، اتصال الرئيس عبد الفتاح السيسي بنظيره الكيني، وليام روتو، أحد مبعوثي «إيغاد» للأزمة السودانية والذي فتح قنوات اتصال مع واشنطن والرياض، لمناقشة تفاصيل الجهود المبذولة لتحقيق وقف إطلاق نار مستدام، وتعزيز الحوار السلمي لمنع مزيد من العنف، وغرّد روتو، عقب المحادثات مع السيسي، قائلاً إنهما اتّفقا على حثّ جميع الدول (المعنيّة في الشأن السوداني) على دعْم جميع الجهود الهادفة إلى وقْف العداءات، وعدم تشجيع أو الامتناع عن جميع أوجه المشاركة المباشرة وغير المباشرة في الأزمة الجارية.

الوساطة السعودية: تعزيز الدور والاستجابة السودانية
تزامنت جهود الوساطة السعودية مع دورها البارز في إجلاء آلاف العالقين في السودان من ميناء بورتسودان إلى مدينة جدة على الساحل المقابل، ما ساهم بشكل واضح في تعزيز صورة الرياض كـ«قوّة سلام» إقليمي ودولي مهمّة بعد سنوات من ضلوعها في واحدة من أخطر الأزمات الإنسانية في العالم في اليمن. ورأى مراقبون أن الحَراك الدبلوماسي للمملكة في السودان، ضمن سياسة أشمل راهناً، تستهدف تعزيز مكانتها كقوّة حفظ سلام ووساطة، بالاتّساق مع ما تعتبره الرياض سياسة خارجية أكثر استقلالية (عن المحاور الدولية) وإعادة ترتيب أولوياتها وفق مصالحها أوّلاً. وتبلور ذلك في حرْصها الواضح على الترويج لجهودها في السودان كفرصة لوضع مواردها الهائلة (العسكرية واللوجيستية في البحر الأحمر) في خدمة «المجتمع الدولي» ومساعدته في هذه الأزمة، وتعزيز الاستقرار الإقليمي بشكل كبير، بعد سنوات من اتّباع سياسة تدخّلية في ملفّات إقليمية عدّة.
ويمكن، بطبيعة الحال، تقسيم الموقف السوداني إزاء الوساطة السعودية، التي نجحت في التغلغل في وساطة «إيغاد» وتحقيق التنسيق المأمول مع واشنطن وحشد دعْم القاهرة، إلى موقفَين رئيسَين: الأول، تفهّم كامل من قِبَل «مجلس السيادة» السوداني والقوات المسلّحة بقيادة البرهان، وإبداء مرونة تامّة بقبول الوساطة «حتى مراحلها الأخيرة» (كما كشف بيان 3 أيار) دون الالتزام بالضرورة بمتطلّبات وقف إطلاق النار (كما حدث في اليوم الأول من الهدنة الأخيرة في 4 أيار، من تصاعد للأحداث التي وصفها مراقبون سودانيون بالأعنف منذ اندلاع الأزمة قبل نحو ثلاثة أسابيع). أمّا المعضلة الأساسية في الاستجابة للوساطة محلّياً، فتتمثّل في موقف «الدعم السريع» وقيادتها التي تحاول كسْب قدرة تفاوضية أكبر في الأيام الأخيرة لتجاوز أيّ «وساطة» مرحلة وقف إطلاق النار إلى ضمان دور هذه القوات في العملية السياسية اللاحقة. وربّما كان حادث الهجوم على مقرّ «الملحقية الثقافية السعودية» في الخرطوم (2 أيار) الذي اتّسم بسمات عمليات قوات «الدعم» (أو بحسب مصادر سودانية، «طرف ثالث» لا يُستبعد أن يكون من قِبَل نفس الدول الخليجية أو غير العربية التي تدعم حميدتي في الأساس)، دليلاً على وجود مساعٍ من قِبَل هذه القوات لتخريب الوساطة السعودية، أو دفْعها نحو السيناريو السابق، وربّما تكرار «ابتزاز» الموقف المصري.

خلاصة
تزايدت حظوظ ومقبولية مبادرة الوساطة السعودية منذ لحظاتها الأولى، كما اتّضح في سلاسة تحوّلاتها في تنسيق المواقف مع مصر ودول «الرباعية» وجماعة «إيغاد» (باستثناء تهميش ملحوظ للتنسيق المباشر مع الإمارات في الأمتار الأخيرة الراهنة). وعلى رغم إمكانية وضْع الوساطة في سياق سياسة الرياض تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية من بوابة حفْظ الأمن والاستقرار في دولة جوار مهمّة، كونها واقعة على تقاطعات جيواستراتيجية شرق أوسطية وعربية وأفريقية. ويُتوقّع أن تستمرّ هذه الوساطة، بحكم ارتباطات الرياض الاقتصادية والسياسية مع الخرطوم، في تحقيق اختراقات في حال استمرار طرْح حلول الوساطة وعدم انفلات الصراع الراهن إلى تصفير نهائي لأيّ خيارات سلمية، وهو سيناريو يظلّ قائماً لعدّة اعتبارات، أهمّها عزم القوات المسلّحة على استبعاد التفاوض مع قوات «الدعم السريع المتمرّدة» في ما يخصّ ما بعد وقف إطلاق النار، واعتبار الأخير غاية نهائية، وكذلك تزايُد مؤشرات لجوء محتمل إلى دول مؤيّدة لحميدتي بنقل أسلحة مختلفة نوعيّاً له ستؤدّي في النهاية إلى إطالة أمد النزاع (وهي مؤشرات قادت الرئيس المصري إلى إصدار تحذير «غير دبلوماسي» ضدّ أيّ تدخّل في الشأن السوداني، في إشارة إلى مجموعة دول تضمّ بالتأكيد الإمارات وإثيوبيا وإريتريا، قبل إعلان القوات المسلّحة المصرية «تعبئة واسعة» على الحدود الجنوبية مع السودان في 4 أيار)، إضافة إلى رغبة الجيش السوداني الواضحة في تصعيد الأزمة مع «الدعم السريع» حتى لحظاتها الأخيرة واستسلام قيادتها ومحاكمتهم توطئة لإقرار تسوية لا تمسّه ومصالحه ودوره في الحفاظ على الاستقرار والأمن في السودان، بحسب تصوره.