بدا، في أعقاب تجاوز الجداول الزمنية لـ«الاتفاق الإطاري»، والتي أُعلنت قبل أسابيع تبشيراً بتوافق سياسي مصطنع كان مقرّراً «اكتماله» مرحلياً في 11 نيسان الجاري، أن ثمّة نهاية واضحة لمرحلة «الورش» المختلفة لمعالجة قضايا المرحلة الانتقالية، وأن الصراع بين القوى السياسية والمؤسّساتية سيتّخذ طابعاً مكشوفاً، ومن دون «قفّازات» هذه المرّة. وجاء تنظيم ما عُرف بـ«إفطار عمر البشير» (10 نيسان) من قِبل جماعات موالية للرئيس المعزول، ليثير مخاوف جمّة، بالأساس لدى «قوى الحرية والتغيير - المجلس المركزي» باعتباره رسالة واضحة بإعادة اصطفاف تيّار إسلامي عريض - لا يزال بإمكانه الفوز بالانتخابات -، خلف قيادات الجيش السوداني بشكل مباشر أو غير مباشر.وتزامن ذلك مع تواتر تقارير سودانية منذ مطلع الجاري، عن إعادة تموضع ملحوظة لقوات «الدعم السريع» في العديد من الأقاليم، بما فيها شرق البلاد، وبشكل خاص في مدينة مروي (بالولاية الشمالية)، التي تشهد - بحسب مراقبين سودانيين - حضوراً عسكرياً مصرياً (يتركّز في منطقة المطار)، بالتنسيق مع السلطات السودانية لأغراض التدريب العسكري. وقد لا يمكن فصل هذا التحرّك عن جولات قائد «الدعم السريع»، محمد حمدان دقلو، الخارجية، ولا سيما إلى الإمارات في شباط الماضي، ثمّ إريتريا في منتصف آذار، والتي أثارت حفيظة قيادة الجيش، وصولاً إلى إصدارها بياناً (13 الجاري) خطيراً في مضمونه ودلالاته، أشار صراحة إلى مواجهات عسكرية محتملة مع «الدعم السريع»، بعد أقلّ من يومين من محادثات هاتفية بين وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، ورئيس «مجلس السيادة»، عبد الفتاح البرهان.

نهاية فقاعة «الاتفاق الإطاري»
على رغم تراجع حدّة لهجة الأطراف القائمة على الدفع بـ«الاتفاق الإطاري»، وجنوحها قرب منتصف الجاري إلى دعوة أطراف أخرى (ولا سيما الكتلة الديموقراطية) إلى مشاركة فعالة في تطويره والاستقرار على صيغة نهائية له، والوعد بمحاصصات مغايرة عمّا سبق إعلانه لترضية الأطراف «الممانعة» (بما في ذلك تبنّي خطاب أقلّ عدائية تجاه قوى الإسلام السياسي)، فإن التطوّرات على الأرض كانت تشي بانتهاء فقاعة «الإطاري» ومسوّدة «الاتفاق السياسي النهائي» تماماً. ذلك أن القوى المنخرطة في التسوية لم تدرك حجم ما ألحقته بمجمل المرحلة الانتقالية، بجنوحها إلى خيارات صفرية لم تستند إلى أيّ أسس موضوعية، باستثناء التعويل على دعم خارجي واضح وصريح من جانب دول خليجية ودول جوار، ولا سيما الإمارات وإثيوبيا، وإلى حدّ ما السعودية، والتي تبنّت جميعاً أجندة هدفها الرئيس تكريس أدوات سيطرتها على الاقتصاد السوداني.
وعلى سبيل المثال، فإن إعلان خالد عمر، الناطق باسم «المجلس المركزي»، قبل أيام، توسيع «قاعدة المشاركة باستثناء حزب المؤتمر الوطني»، وإمكانية منح «الكتلة الديموقراطية» نسبة تمثيل تصل إلى 47%، واحتفاظ «المركزي» بأغلبية 53%، لم يجد استجابة جدّية، على رغم ترحيب قادة في الكتلة بالخطوة، وتأكيدهم في الوقت نفسه (10 نيسان) تمسّكهم بنسبة 50% لكلّ طرف. أمّا الآلية الثلاثية فكانت قد رفضت وضع نِسب لأيّ جهة، معلِنةً أن «المفاوضات الرسمية مع أطراف العملية السياسية لم تبدأ بعد»، في إشارة إلى توقّف ما عرفت بالورشة الأمنية والعسكرية. كما بدا لافتاً علوّ نبرة ضرورة التوافق على «عقد اجتماعي» جديد، قائم على مبدأَي التوافق السياسي وتوسيع قاعدة الانتقال المدني.
في المقابل، انبرت «قوى الحرية والتغيير» (11 نيسان) إلى انتقاد ما اعتبرته «تجاهلاً وصمتاً» إزاء تنامي أنشطة «حزب المؤتمر الوطني» المنحلّ، في إشارة إلى «إفطار البشير» الذي شهد حضوراً مكثفاً وتنظيماً ملموساً أعاد إلى الأذهان قدرة التيار الإسلامي على الحشد والتنظيم. يُضاف إلى ما تَقدّم تخوّف تلك القوى، وكذلك «لجان المقاومة»، من التقارب المتزايد بين التيار المذكور والجيش، الذي بدأ يدور الحديث عن احتمال لجوئه إلى سياسات تقليدية في مواجهة «الدعم السريع»، عبر تجنيد عناصر من النظام البائد.

بيان الجيش: نحو إعادة ضبط المرحلة الانتقالية؟
حرصت قيادة «الدعم السريع» على تفنيد ما اعتبرته ادّعاءات بخصوص تحرّكاتها في مناطق مختلفة من السودان، ولا سيما «مطار مروي»، على اعتبار أن قواتها «قومية تضطلع بعدد من المهام والواجبات الوطنية التي كفلها لها القانون»، وبالتنسيق مع قيادات القوات المسلّحة «وبقيّة القوات النظامية الأخرى». غير أن البيان الذي ألقاه نبيل عبد الله، الناطق الرسمي باسم الجيش، صباح 13 الجاري، أشار صراحة إلى قيام «قيادة الدعم السريع بتحشيد القوات داخل العاصمة وبعض المدن»، من دون موافقة قيادة الجيش أو حتى التنسيق معها، ما «فاقم من المخاطر الأمنية، وزاد من التوتّر بين القوات النظامية». وجدّد عبد الله تمسّك القوات المسلّحة «بما تمّ التوافق عليه في دعم الانتقال السياسي».
أنبأ البيان المذكور بانعدام الثقة بين الجيش و«الدعم السريع»، وبأن الأزمة بين الجانبَين باتت قائمة على الأرض، وربّما تصل إلى مرحلة الاحتراب الأهلي حال عدم تراجع دقلو عن نشر قواته، وهو توجّه يحظى بدعم قطاعات مهمّة في شرق السودان وفي إقليم دارفور، فضلاً عن الولاية الشمالية (التي تمثّل المصدر الرئيس والتقليدي لعناصر الجيش السوداني النظامي). ويعزّز من إمكانية تحقّق هذا السيناريو أيضاً، تعاظم الانتقادات المتبادلة بين «الدعم السريع» ولجان الأمن الولائية في عدد من الولايات (أبرزها جنوب دارفور)، والتي تجنح نحو التعاون مع قوات الجيش النظامية. أمّا في حالة تراجع «الدعم السريع» عن خطواتها، فلن تترتّب على ذلك العودة إلى مسار الاتفاق السياسي، ما يعني في المحصّلة إعادة ضبط لمجمل المرحلة الانتقالية.
وتبدو العوامل الإقليمية حاضرةً في الأزمة، حيث اتّهمت بعض «قوى الحرية والتغيير»، على نحو مكثّف في الساعات الأخيرة، مصر بانتهاك سيادة السودان عبر وجود عسكري لافت لها في مدينة مروي. في المقابل، حرصت القاهرة، التي استضافت قبل ساعات من هذا التصعيد، الرئيس الإماراتي، محمد بن زايد، على عدم التعليق على تلك الاتّهامات، بينما تحرّكت الرياض على الفور لنزع فتيل الأزمة، بحسب ما ذكرت مصادر سودانية، عبر تقديم اقتراح بسحب «الدعم السريع» من مروي، ومعالجة «الوجود العسكري المصري في القاعدة الجوية السودانية» هناك لاحقاً. وتَظهر هذه المبادرة، في حال تأكّدها، منحازة إلى جانب «الدعم السريع» و«الحرية والتغيير»، ومستبطنةً مؤشّرات إلى نيّة تهميش الدور المصري في السودان بشكل كبير، مع ملاحظة تجاوزها خطط دمج «الدعم» في الجيش لمصلحة تكريس الوضع القائم، والحيلولة دون قيام جيش موحّد.
الأزمة بين الجيش و«الدعم السريع» باتت قائمة على الأرض، وربّما تصل إلى مرحلة الاحتراب الأهلي


كذلك، تؤشّر زيارتا حميدتي للإمارات وإريتريا قبل أسابيع، حيث التقى نائب رئيس مجلس الوزراء الإماراتي والرئيس الإريتري على الترتيب، إلى وجود تعقيد إقليمي في المواجهات الراهنة، وكذا حضور تحفيز سلبي يهدف في المحصّلة إلى إدامة الحالة الراهنة وتوازناتها الهشّة، على نحو يضمن المصالح الاقتصادية المختلفة للدول المعنيّة بأقلّ تكلفة ممكنة، ويعمّق الارتباطات الإقليمية بين إثيوبيا وإريتريا والسودان على حساب سيادة الأخير واستقلالية سياساته الخارجية.
خلاصة
كشف التصعيد الراهن بين الجيش السوداني و«الدعم السريع» عن هشاشة أطروحات «الاتفاق الإطاري» وما عُرف بـ«الاتفاق السياسي النهائي»، وعجزها عن تقديم بنود دقيقة وعملية لإدارة المرحلة الانتقالية. وإذ فتح الباب على سيناريو اقتتال قاتم، فهو أنبأ في الوقت نفسه بأن السودان قد يكون متّجهاً نحو مرحلة جديدة من إعادة إنتاج خريطة طريق للمرحلة الانتقالية، ربّما تتيح توسيع قاعدة المشاركة في العملية السياسية، وتسفر عن تراجع تأثير عدد من الفاعلين الإقليميين في الرباعية الدولية، في ظلّ اضطراب رؤية واشنطن للملفّ السوداني.