باتت تعقيدات المشهد الإسرائيلي متشابكة إلى درجة أن كلّاً منها أضحى يغذّي الآخر وينمّيه. وتُواصل هذه التعقيدات، التي تتصدّرها الأزمة السياسية والتوتّرات الأمنية المترافقة أيضاً مع تراجع المكانة الإقليمية والدولية للكيان العبري، إثارة أسئلة حول قدرة تل أبيب على تجاوز أزماتها، فيما تتداخل المصالح الشخصيّة لزعمائها مع تلك العامّة، وتتآكل صورة ردعها على نحو لم يَعُد الحديث عنه مجرّد فرضيّة أو قراءة تحليلية، وإنّما حقيقة يشمل الإقرار بها مجمل أطراف القوس السياسي الإسرائيلي. ومع ذلك، تتقاذف القيادات والأحزاب المسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع؛ وفي هذا الإطار، اختصر رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، خلال افتتاح مؤتمره الصحافي أوّل من أمس، المشهد بالقول إن «دولتنا تتعرّض لهجوم إرهابي»، لكنه حرص أيضاً على تحميل الحكومة السابقة المسؤولية من خلال توقيعها اتفاق الغاز مع لبنان، والذي عاد ليصفه بـ«اتفاق الاستسلام»، إذ أدّى، بنظره، إلى تزايد الهجمات ضدّ إسرائيل، فيما تسبّبت حالات التمرّد الداخلي في إضعاف المناعة القومية الإسرائيلية.على أن رأس الهرم السياسي الإسرائيلي، المعروف بصعوبة إقراره بالواقع عندما لا يكون في مصلحته، لم يبادر إلى الاعتراف بتلك الحقائق إلّا بعدما لم يجد أمامه مفرّاً من ذلك، وبات يدفع أثمان إنكارها من رصيده السياسي والشعبي. ولذا، رمى بالمسؤولية على خصومه، وقدّم جردة حساب بما قام به من خطوات عملياتيّة أمام الجمهور، ليقول إن المشكلة ليست فيه، وإنه يقوم بما هو ملقًى على عاتقه. على أن أكثر ما يلفت في المشهد، أنه على رغم الأجواء الأمنية المتوتّرة وإمكانية حصول تصعيد عسكري في أيٍّ من الجبهات، إلّا أن خصوم نتنياهو حرصوا على عدم تمكينه من توظيف هذا التصعيد لمصالحه السياسية والشخصية. إذ واصلوا التظاهرات في تل أبيب وغيرها من المدن ضدّ خطّة الحكومة القضائية، فيما أشارت أحدث الاستطلاعات إلى تدهور مكانة نتنياهو إلى مستوى لم تنحدر إليه منذ سنوات طويلة.
وعلى أيّ حال، فقد حملت مطالعة نتنياهو إقراراً ضمنياً بأن يد إسرائيل لم تكن هي العليا في الاشتباك الإقليمي المتقطّع، بدءاً من داخل فلسطين، وصولاً إلى الجبهات التي تلتفّ حول كيان العدو من الجنوب إلى الشمال. كما حملت اعترافاً بأن مجرّد توجيه ضربات عسكرية هنا وهناك لا يعني بالضرورة القدرة على إملاء المعادلة، خصوصاً أن تل أبيب تفتقد الهامش الواسع في الردّ أيضاً، في ظلّ اضطرارها إلى التسليم بالمعادلات التي فرضتها المقاومة، وإدراكها المخاطر الكامنة في تجاوزها الحادّ لها. على أن أكثر ما يقلق إسرائيل، هو احتمال تطوّر الأحداث في اتّجاه دراماتيكي، في ظلّ القيود الدولية والإقليمية على الكيان، وتحوّل معادلات القوّة، واستمرار الانقسام الداخلي، والذي لم تنجح قيادة العدو، حتى الآن، في ردمه، على رغم النيران الصاروخية التي التفّت حولها من عدّة اتّجاهات، وفي ظلّ توالي العمليات التي ضربت مجدّداً في تل أبيب. وفي مقابل تلك الرسائل، بان بوضوح حرص العدو على توجيه ردود رمزية أكثر منها عملياتية، وهو أمر أقرّ به نتنياهو بشكل صريح، باعتباره أن الضربات التي نفّذها سلاح الجو هي «رسالة لحماس إزاء الثمن الذي سنجبيه منها لاحقاً إذا ما احتجنا إلى ذلك، وأن الرسالة تمّ استيعابها»، مع الإشارة هنا إلى أن ما يبدو لوهلة عدم تناسب في الأداء الإسرائيلي، إنّما تفسّره الحيثيات المفنّدة آنفاً في شأن الوضع الاستراتيجي لدولة الاحتلال.
حملت مطالعة نتنياهو إقراراً ضمنياً بأن يد إسرائيل لم تكن هي العليا في الاشتباك الإقليمي المتقطّع


أمّا بخصوص سوريا، فقد وجّه تهديداً مباشراً بأن النظام السوري سيدفع ثمناً كبيراً جداً في حال تواصل إطلاق الصواريخ والمسيّرات من الأراضي السورية، فيما لم يجد أمامه، في مواجهة لبنان، سوى تزييف الحقائق، قائلاً إن إسرائيل هاجمت جويّاً بنى تحتية لـ«حزب الله»، إلى جانب أهداف لـ«حماس»، وهو ما خلت منه حتى البيانات والتقارير الإسرائيلية نفسها. وفي شأن الضفة الغربية، عرض نتنياهو سلسلة اعتداءات تنوّعت ما بين اعتقالات وتصفيات، وهي خطوات أصبحت تقليديّة بفعل ما يمارسه جيش العدو بمناسبة وبغير مناسبة. على أن العبرة الأهمّ في هذا السياق، تظلّ في إقرار نتنياهو بمجموعة حقائق تشكّل مؤشّراً كاشفاً إلى معالم المرحلة المقبلة؛ إذ لم ينكر الصدوع التي أصابت قوّة الردع الإسرائيلية، بل أقرّ بها، متعهّداً بـ«(أنّنا) سنرمّم الردع»، محاولاً طمأنة الجمهور الإسرائيلي بالقول إن هذا المسار لم يستنفد، وإنّما «ما زلنا في ذروة المعركة». ومع ذلك، أكد نتنياهو أن إسرائيل «لا تريد معركة واسعة، ونبذل كل جهودنا من أجل منْعها»، وهو ما يفسّر حرص تل أبيب على عدم تجاوز بعض الخطوط الحمراء تجنّباً لردود متنوّعة تدرك الأجهزة المختصّة أن إسرائيل ستتعرّض لها.
لكن في المقابل، فإن الاستخبارات العسكرية، «أمان»، وعلى رغم تأكيدها أن «احتمالات الحرب ليست مرتفعة، وذلك لأن إيران وحزب الله وحماس ليسوا معنيّين بالضرورة بمواجهة مباشرة وشاملة مع إسرائيل»، إلّا أنها حذّرت من أن هذه الجهات الثلاث «مستعدّة للمخاطرة والرهان بعمليات هجومية»، انطلاقاً من «تقليص (إسرائيل) حيّز مناورتها الاستراتيجية». وما بين الحدَّين اللذين عبّرت عنهما تقديرات كلّ من الاستخبارات ونتنياهو، يظلّ المشهد مفتوحاً على أكثر من سيناريو. لكن الأكيد، إلى الآن، أن الخشية من احتمالات التدحرج نحو مواجهة واسعة ومن ثمّ شاملة تبقى حاضرة لدى منظومة صناعة القرار السياسي والأمني في تل أبيب، خصوصاً عندما يدور الحديث عن «حزب الله». ولعلّ ممّا يؤشّر إلى ذلك، الاعتداءات الأخيرة على الساحة اللبنانية، والتي استهدفت مناطق مفتوحة، تجنّباً لاستفزاز الحزب، الذي كشفت التقارير الإسرائيلية تباين أطراف المنظومة الأمنية حول تقدير رد فعله إذا ما كانت الضربة محدودة وبالمواصفات التي تمّت بها.