بعث القرار البراغماتي البارد الذي اتّخذته المملكة العربية السعودية، في نهاية الأسبوع الماضي، خفض إنتاج النفط ورفع الأسعار، برسالة بسيطة، مفادها بأن القرار في الخليج الفارسي أو في سوق النفط لم يَعُد في يد الولايات المتحدة. في الواقع، انتهى عصر الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط. وكان وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، قد ضغط، يوم الأحد الماضي، على منتجي «أوبك»، لخفض الإنتاج بنحو مليون برميل يوميّاً، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار الخام بأكثر من 6%، إلى حوالي 85 دولاراً للبرميل. أمّا بالنسبة إلى إدارة بايدن التي تكافح في سبيل احتواء التضخّم وتجنُّب الركود، فكانت زيادة الأسعار التي تقودها السعودية مثل الوخز في العين.على أن المملكة العربية السعودية تتحوّط في رهاناتها، وكذلك تفعل الولايات المتحدة؛ إذ لا تريدان قطْع العلاقات بينهما، على رغم أن القادة في كلتا العاصمتَين يشعرون بعدم الاحترام. وذلك، على أيّ حال، ليس توازناً سهلاً أو مستقرّاً - وخاصّة بالنسبة إلى إسرائيل، التي تريد علاقات أفضل مع الرياض، ولكنّها تعتمد بشكل مطلق على موثوقيّة القوّة الأميركية في المنطقة. لكن الحياة تستمرّ، حتى بالنسبة إلى قوّة عظمى مهجورة. وكان مدير وكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إيه»، وليام بيرنز، قد زار المملكة هذا الأسبوع، حيث «ناقش المصالح المشتركة» مع كبار المسؤولين السعوديين، و«أكد التزامنا بالتعاون الاستخباري، ولا سيما في مجالات مِن مِثل مكافحة الإرهاب»، وفق ما قال لي مسؤول أميركي.
ويبدو مغرياً النظر إلى تحريك محمد بن سلمان إنتاج النفط، على أنه تأييد مسبق للرئيس السابق دونالد ترامب. من المؤكد أنه يفضّل الجمهوريين، لكنه كان يتحوّط في رهانه على الحزب الجمهوري أيضاً. وفي شباط الماضي، استضاف الأمير السعودي زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل (كنتاكي)، ومجموعة من كبار أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، من بينهم جيمس ريش (أيداهو)، وتوم كوتون (أركنساس). وهذا الأسبوع، نظّم السعوديون حدثاً فخماً في ميامي استضافه العمدة الجمهوري فرانسيس سواريز، حليف الحاكم رون ديسانتيس، منافس ترامب. لا يزال ابن سلمان مخلصاً، بطريقته الخاصّة، للرئيس السابق الذي تفاخر - أمام بوب وودوارد - «لقد أنقذتُ مؤخّرته» بعد مقتل الكاتب الصحافي جمال خاشقجي، عام 2018. كذلك، موّل «صندوق الثروة السيادية» التابع لمحمد بن سلمان جولة «LIV Golf» التي عَرضت منتجعات ترامب، واستثمرت أكثر من مليارَي دولار في شركة استثمارية يديرها جاريد كوشنر، صهر ترامب ومستشاره السابق.
لكنّني أظنّ أن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، هو ترامب الجديد، بالنسبة إلى ابن سلمان. وعندما زار شي المملكة، في كانون الأول الماضي، نظّم ابن سلمان قمّة خليجية شاركت فيها دول أخرى تعهّدت بالتعاون في القضايا الاقتصادية والطاقة والأمن. أيضاً، أخبر الأمير سعوديين مقرّبين أن الولايات المتحدة لا تزال شريك المملكة، لكنّها ليست الشريك الوحيد لها. قيل لي إن وليّ العهد أوضح لهؤلاء أنه في حين أن أسلافه كانوا سيوافقون فوراً على الطلبات الأميركية، إلّا أنه «كسر ذلك، لأنني أريد أشياء في المقابل». لكن ابن سلمان تلقّى للتوّ تأكيداً جديداً على حماية الولايات المتحدة خلال زيارة بيرنز، وتدريبات عسكرية مشتركة.
تعاملت إدارة بايدن بهدوء مع الخطوة السعودية الأخيرة، بعدما كانت قد استشاطت غضباً عندما خفّضت المملكة الإنتاج بحدّة في تشرين الأول الماضي. لاحظ المسؤولون أن أسعار النفط الخام كانت عند أدنى مستوياتها في 15 شهراً، دون 80 دولاراً للبرميل، في معظم شهر آذار، وأن المحلّلين يتوقّعون مزيداً من الانخفاض إلى ما دون الـ 70 دولاراً. في مواجهة هذا النوع من انخفاض الأسعار، غالباً ما يخفّض السعوديون الإنتاج. ويراهن مسؤولو إدارة بايدن على أن الأسعار ستستقرّ عند منتصف الثمانينيات، وأن التأثير الاقتصادي العام سيكون محدوداً. ولكن إذا ارتفعت الأسعار فوق الـ 100 دولار للبرميل، فليس من الواضح ما يمكن أن تفعله الإدارة حيال ذلك. وبايدن ليس الرئيس الذي يقدّم له هذا الزعيم السعودي أيّ معروف.
يجادل محلّلو النفط بأن هناك اتّجاهاً صعودياً. وانخفضت الأسعار إلى مستويات لم تشجّع على الإنفاق على طاقة إنتاجية جديدة. يقول أندرو غولد، الرئيس التنفيذي السابق لشركة «شلمبرغير» وعضو مجلس إدارة سابق في شركة «أرامكو» السعودية، إن الأسعار المرتفعة قليلاً قد تشجّع الاستثمار «الذي سيكون ضروريّاً للغاية عند انطلاق الطلب» مع انتعاش الاقتصاد العالمي.
وفيما يستكشف محمد بن سلمان الشراكة مع صديقه الجديد، شي، يصبح أكثر حزماً مع جيرانه، مثل الإمارات العربية المتحدة ومصر. وهو قال لمقرّبين سعوديين، العام الماضي، إنه طلب تنازلات من كلا البلدَين في نهاية عام 2023. سافر الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، هذا الأسبوع، إلى الرياض، في زيارة أكد خلالها الجانبان «الاهتمام بتعزيز التعاون المشترك». يقال إن التوتّرات لا تزال قائمة مع الإمارات، لكن الإماراتيين اتّبعوا خطى ابن سلمان في خفض إنتاج النفط.
بالنسبة إلى إسرائيل، يشكّل محمد بن سلمان القوي مخاطر خاصّة. تسعى إسرائيل إلى تطبيع العلاقات مع السعوديين، لكن وليّ العهد أبرم للتوّ صفقة مع إيران، العدوّ اللدود لإسرائيل، بوساطة صينية، المنافس الأقوى للولايات المتحدة. يريد محمد بن سلمان ذلك في كلا الاتجاهَين: الحفاظ على الحماية الأميركية (والإسرائيلية السرية) وتجاهل مصالحهما. هذا لن ينجح.
قامت الولايات المتحدة بتدليل المملكة العربية السعودية الضعيفة لأكثر من نصف قرن لأنّنا بحاجة إلى نفطها. الآن، وعلى نحو متزايد، لم نَعُد بحاجة إلى نفطها. ما نريده هو السعودية التي تتصرّف كشريك مسؤول، حتى في الوقت الذي تضع فيه مصالحها في المقام الأول.
*(«واشنطن بوست»)