لم يَعُد الحديث عن تراجع خطير في «الوضع الاستراتيجي» لإسرائيل مجرّد وجهة نظر، أو توصيف يتبنّاه «محور المقاومة» لما آل إليه الكيان بفعل المتغيّرات الإقليمية والدولية والداخلية أيضاً، وإنّما بات رائجاً على ألسنة كبار قادة العدو. وفي آخر تجلّيات ذلك، وجّهت الاستخبارات العسكرية، «أمان»، إنذاراً استثنائيّاً من مفاعيل هذا التراجع، إلى القيادَتين السياسية والأمنية، وعلى رأسها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن يوآف غالانت، ورئيس «مجلس الأمن القومي» تساحي هنغبي. وكانت الأجهزة الأمنية كافة توالت توصياتها إلى القيادة السياسية، بضرورة كبْح المسار الانحداري الذي تسارعت وتيرته في الأشهر الأخيرة، نتيجة احتدام الصراع الداخلي الذي أضرّ بأحد أهمّ مقوّمات المكانة الاستراتيجية لإسرائيل.وعلى رغم أنه لا يُسمح عادةً لوسائل الإعلام بنشر التفاصيل المتّصلة بقضيّة حسّاسة كهذه، إلّا بشكل مدروس وانتقائي، إلّا أن صحيفة «إسرائيل اليوم» صدّرت صفحتها الأولى، أمس، بعنوان «الاستخبارات تُحذِّر: الردع يتآكل». والواقع أنه بالنظر إلى المقوّمات والمبادئ التي يقوم عليها الوضع الاستراتيجي لإسرائيل، وبمقارنتها بالوقائع التي استجدّت في بيئتَيها الداخلية والخارجية، يتّضح أن هذا التآكل حقيقة واقعة. إذ تستند مكانة الكيان، كما سبق أن حدّدها رئيس الاستخبارات السابق اللواء تامير هايمن، إلى أربعة مداميك رئيسة، عسكري واقتصادي وسياسي (دولي وإقليمي ومحلّي) واجتماعي. ويعني ذلك أن أيّ خلل جوهري في أيٍّ من هذه المداميك، من شأنه أن يحدّ من إيجابيّات البقيّة، وفي سيناريوات أكثر خطورة، أن يتسبّب بتسريع وتيرة تخلخلها. ومن منظور شامل يتجاوز اللحظة السياسية والأمنية، يتبيّن أن المسار الانحداري يكاد يطاول أغلب الأسس المذكورة، وإنْ بنسب متباينة.
في السنوات الماضية، اعتادت التقديرات الإسرائيلية تأكيد ثبات الوضع الاستراتيجي لإسرائيل، ووصفه بـ«الجيّد» مقارنة مع أعدائها. إلّا أن ما دفع الاستخبارات العسكرية إلى رفْع الصوت عالياً، هو ما اعتبرته تراجعاً خطيراً في هذا الوضع نتيجة تضافر عدّة أسباب، أهمّها «رصْد أعداء إسرائيل ضعفها نتيجة التمزّق الداخلي» الذي تفاقم على خلفية المواقف المتعارضة من التشريعات القضائية. وما لم تنقله التقارير الإعلامية الإسرائيلية، والذي يمكن أن يكون قد ورد أيضاً في وثيقة الاستخبارات، تكفّل بتجلية جانب منه رئيس شعبة التخطيط في جيش العدو، اللواء يعقوب بينغو، بمشاركة ضابطَين رفيعَين آخرَين، في مجلة «معرخوت» التابعة للجيش، مطلع السنة الجارية. إذ ذكّر بأن «من العناصر المهمّة في قدرة إسرائيل على تنفيذ استراتيجيتها في العقود الأولى من وجودها، هو تماسك المجتمع الإسرائيلي ومناعته واستعداده لتحمُّل العبء الضروري لمصلحة الردّ الأمني»، فيما اليوم أصبحت «الدولة» تواجِه «العديد من التحدّيات التي ستجعل من الصعب عليها الحفاظ على تماسكها وعلى عنصر القوّة الناشئ عن طبيعة العلاقة بين المجتمع الإسرائيلي وجيشه، وهذه التحدّيات هي: تغيير ديموغرافي يؤدّي بدوره إلى تغيير في الروح والقيم («القبائل الأربع»)؛ تآكل التماسك الاجتماعي والدولتي؛ - صعوبة الحفاظ على نموذج جيش الشعب؛ بدائل توظيف جيّدة من ناحية اجتماعية واقتصادية بالقياس إلى الخدمة في الجيش الإسرائيلي والمنظومة الأمنية؛ إضعاف المكانة العامة للجيش الإسرائيلي والمنظومة الأمنية في المنظومة السياسية والعامّة؛ وتحدّي التغييرات في البيئة التكنولوجية والإعلامية والقدرة القيادية لكبار القادة»، مع الإشارة إلى أن هذا التقدير كُتب قبل تفاقم الصراع الداخلي الذي تشهده إسرائيل راهناً.
توالت توصيات الأجهزة الأمنية كافة إلى القيادة السياسية، بضرورة كبْح المسار الانحداري


وحول تمدُّد هذه الانقسامات وعمقها، نبّه رئيس الاستخبارات العسكرية، «أمان»، اللواء أهارون حليفا، أوّل من أمس، إلى أن أصداء الخلافات الداخلية «وصلت إلى أبواب أمان والجيش الإسرائيلي، وإلى عتبة دورة الضباط». وعن تأثير ذلك في القدرة على مواجهة التهديدات الخارجية، أشار حليفا إلى أن «كثرة التهديدات والساحات تَفرض علينا الحفاظ على التكتُّل داخل الجيش»، معتبراً أن هذه المسألة «حيوية جدّاً. وفقط هكذا يستطيع الجيش الإسرائيلي الحفاظ على مِنعته، ومواصلة تحقيق غايته كقوّة لحماية دولة إسرائيل». على أن مشكلة إسرائيل الإضافية هي أن المتغيّرات التي تشهدها بيئتاها الداخلية والخارجية مرصودة من جانب أعدائها. وفي هذا السياق، توقّفت وثيقة الاستخبارات عند دلالات الاجتماعات التي عقدها الأمين العام لـ«حزب الله»، السيد حسن نصرالله، مع مسؤولي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، بهدف تنسيق المواقف؛ والتوجّه الإيراني لتنفيذ هجمات في إسرائيل؛ وأيضاً عمليّة مجدو التي وقعت في الـ13 من آذار الماضي. وفي سياق متصل، اعتبرت صحيفة «هآرتس» أن الهجمات المتتالية في سوريا، في الأيام الأخيرة، «هي محاولة من قِبَل إسرائيل لاستعادة الردع وإعادة ترسيخ توازن رعب مقابل إيران وحزب الله، يمنعهما من شنّ هجمات داخل إسرائيل». ويؤشر ما أوردته الصحيفة إلى أن إسرائيل مسكونة بالرعب من أن تكون عمليّة مجدو جزءاً من معادلة أشدّ خطورة، وبداية لمسار جديد على وقْع المتغيّرات السياسية والأمنية التي تشهدها البيئة الاستراتيجية لإسرائيل.
من جهة أخرى، أوردت وثيقة «أمان» سبباً إضافياً للتراجع الخطير الذي أصاب الوضع الاستراتيجي لإسرائيل، يتمثّل في التباعد بينها وبين الولايات المتحدة. وحذّرت من أن إيران هي المستفيدة من ذلك، انطلاقاً من قناعة لدى الأخيرة بأنه ليس في إمكان إسرائيل خوض معركة ضدّها أو مهاجمة مشروعها النووي، من دون دعمٍ أميركي. وتجلّت بعض نتائج هذا المستجدّ في الانزياح الذي يُظهره أصدقاء الكيان، لا سيما في الخليج، والذي تجلّى في استئناف السعودية والبحرين علاقاتهما مع إيران، بعدما كانتا تقرّبتا في الماضي من إسرائيل بسبب علاقتها الوثيقة مع الولايات المتحدة.
على أن أكثر ما تخشاه الاستخبارات، يظلّ تآكل الردع، وتبعاً له تآكل قوّة إسرائيل السياسية والأمنية، والذي يَظهر أنه سيتعمّق في ضوء المسارات المتسارعة في الساحتَين الداخلية والخارجية، ومن أبرزها: الانتقال من الأحادية الأميركية إلى التعدديّة القطبية التي يستفيد منها أعداء إسرائيل، وتعاظُم قدرات «محور المقاومة» وتعزيز مكانته الإقليمية والسياسية، والتطوّر التكنولوجي المتسارع لدى إيران وقوى المحور، والذي يقلّص الهوة النوعية مع جيش العدو، في متغيّر تحوّل إلى همّ لدى الجيش منذ بداية ولاية أفيف كوخافي، في عام 2019. وممّا يزيد الصورة «قتامةً»، التصدّعات العميقة التي تتطوّر داخل المجتمع الإسرائيلي حول صورة الدولة وطابعها، والتي «تشكّل طلقة تشجيع» لأعدائها، بحسب ما حذر منه رئيس «الشاباك»، رونين بار.