لا يتردّد عاموس يادلين، الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، في الإقرار بأن تآكل الردع الإسرائيلي في مقابل إيران و»حزب الله»، كان من بين أبرز القضايا التي أراد مناقشتها مع المسؤولين الأميركيين عندما سافر إلى الولايات المتحدة منذ أسبوع ونيف، وفقاً لمقاله على موقع «القناة الـ12» الإسرائيلية. يأتي كلام يادلين في سياق تصاعد ملحوظ في الاعتداءات الإسرائيلية ضدّ سوريا خلال الأسابيع الماضية، والتي استهدفت بمعظمها، بحسب المزاعم الصهيونية، مواقع لـ«الحرس الثوري الإيراني والمجموعات الموالية له». وقد رأى نوعام أمير، معلّق الشؤون العسكرية والأمنية في صحيفة «ماكور ريشون»، أن «العدد المرتفع للهجمات التي تشنّها إسرائيل في سوريا، مرتبط بالتزايد النوعي لكمّيات السلاح المهرّب من إيران إليها. ويدلّ النقص في الاحتياطات الأمنية المتَّخذة لحماية المستشارين الإيرانيين المرسَلين إلى هذا البلد، ما يسهّل استهدافهم عبر ضربات جوية أو عمليات اغتيال، على أن الإيرانيين ما عادوا خائفين. السؤال هو ماذا يريدون؟».أمير مقتنع بأن مجمل التطوّرات في الآونة الأخيرة، من عملية مجدو إلى الطائرة المسيّرة التي تمّ إسقاطها في الجليل الأعلى المحتلّ، مروراً بما ذكره عن النشاط الإيراني في سوريا، تثبت أن طهران وحلفاءها يسعون لاستدراج تل أبيب إلى حرب انطلاقاً من تقدير للموقف يعتبر أن الأخيرة في موقع ضعف راهناً. الهجمات والغارات التي قامت بها إسرائيل، بنظره، غايتها إفهام أعدائها بأنها على أتمّ الجاهزية للمجابهة، على عكس ما يعتقدون. ما يتعامى عنه عمداً نوعام أمير، ومعه قطاع معتبَر من المسؤولين والمحلّلين والمعلّقين الإسرائيليين، هو أن استراتيجية «عمليات ما دون الحرب»، وعلى الرغم من أنها اعتُمدت منذ 2014، وشهدت أخيراً ارتفاعاً في وتيرتها، قد فشلت في تحقيق هدفها الأساسي، وهو وقف نقل القدرات العسكرية النوعية من إيران إلى حلفائها، أو تطويرها محلّياً بالتعاون معهم. لكن عاموس يادلين هو من بين أقلّية تعترف بذلك، وتجده سبباً رئيساً لـ«تآكل الردع». فاستمرار مراكمة القدرات من قِبل أطراف محور المقاومة، في ظلّ المتغيّرات الجيوسياسية الكبرى التي تتوالى في العالم وفي الإقليم، وما ينجم عنها من تعديلات على الأجندة الاستراتيجية للولايات المتحدة، هو التحدّي الأخطر بالنسبة لإسرائيل أكثر من أيّ مرحلة سابقة.
المناورات العسكرية المشتركة الأميركية - الإسرائيلية، لم تتوقّف منذ نهاية 2022


المناورات العسكرية المشتركة الأميركية - الإسرائيلية، وبعضها ضخم بكلّ ما للكلمة من معنى، لم تتوقّف منذ نهاية 2022. ففي الـ30 من تشرين الثاني الماضي، بدأ الجانبان مناورات جوية على مدى أيام عدّة، تشمل طلعات جوية بعيدة المدى تحاكي هجوماً على المنشآت النووية الإيرانية. وفي الـ24 من كانون الثاني من هذا العام، انطلقت مناورة عسكرية بين الجيش الإسرائيلي وبين القيادة المركزية للجيش الأميركي، وُصفت بأنها «الأهمّ على الإطلاق»، بمشاركة أسلحة استراتيجية وآلاف الجنود. تلت ذلك، في الـ12 من آذار الماضي، مناورات «الراية الحمراء» بين سلاحَي الجو الأميركي والإسرائيلي، في قاعدة «نيليس» الجوية جنوب نيفادا. حرص الطرفان، في كلّ مرّة، على التأكيد، مباشرة أو مداورة، أن هذه المناورات هي «رسالة موجَّهة إلى إيران». استعراضات القوة بغية حمل إيران على عدم رفع معدلات تخفيضها لليورانيوم، لم تُجدِ نفعاً في الماضي. إذ أعلنت طهران، على لسان كمال خرازي، رئيس المجلس الاستراتيجي للسياسات الخارجية، في مقابلة أجراها مع «الجزيرة»، امتلاكها القدرات الفنية لصناعة قنبلة نووية، وامتناعها عن ذلك بسبب فتوى مرشد الجمهورية الإسلامية بحرمة السلاح النووي. إيران، على رغم الضغوط القصوى والحروب الهجينة وسياسة التهويل المستمرّ، أضحت بالفعل «دولة - عتبة». المنطق نفسه ينسحب على خيارها تطوير قدراتها، وقدرات حلفائها، العسكرية والصاروخية، وفي ميدان المسيرات.
الخلاصة التي يصل إليها نوعام أمير، في مقاله المذكور سالفاً، وهو أن «الإيرانيين ما عادوا خائفين»، صحيح. فإسرائيل لا تستطيع الشروع بحرب كبرى، ومتعدّدة الجبهات مع محور المقاومة، من دون مشاركة أميركية مباشرة وواسعة النطاق. من المستبعد جدّاً، إن لم يكن من المستحيل، أن تقدم الولايات المتحدة على اتّخاذ مثل هذا القرار في ظلّ حربها بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا، والمفتوحة على شتّى الاحتمالات، بما فيها اتّساع نطاقها واضطرار الأصيل للحلول في مكان الوكيل. المواجهة الاستراتيجية المحتدمة بينها وبين الصين، وما تتطلّبه من تعبئة للموارد والإمكانيات، ومن تفرّغ متزايد لنخبها العسكرية والسياسية على حساب الملفّات الدولية الأخرى، هو معطى آخر لا يمكن تجاهله. الردع الاستراتيجي يتآكل لأن الحقائق تُظهر أن إسرائيل لا تملك خيار الذهاب إلى الحرب مع فشل «عمليات ما دون الحرب».
التحوّلات في البيئة الإقليمية، والتي تلعب فيها الصين وروسيا دوراً محورياً، هي أيضاً من بين المستجدات السلبية جدّاً بالنسبة لإسرائيل ومخطّطاتها. فالمصالحات التي تجرى في المنطقة بين دول الخليج وإيران، وبين هذه الدول نفسها إضافة إلى تركيا، من جهة، وسوريا من جهة أخرى، تعني في الحدّ الأدنى نهاية لمشروع التحالف الخليجي - الإسرائيلي الموجَّه ضدّ محور المقاومة، مع ما يترتّب على ذلك من منعٍ لإسرائيل من استخدام أراضي هذه الدول أو أجوائها للعدوان على إيران. لكن التطوّر في العلاقات بين هذه الأطراف بمجملها قد لا يقف عند الحدّ الأدنى، بل ربّما يتعدّاه ليفسح في المجال أمام إعادة بناء منظومة إقليمية تحفظ مصالحهم وأمنهم في سياق دولي متحوّل. لقد فشلت «عمليات ما دون الحرب» في تحقيق غاياتها عندما كانت الظروف الدولية أكثر ملاءمة لها - دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وعدم تورّط الأخيرة في نزاعات كبرى كما هي الحال اليوم -، وكذلك تلك الإقليمية لناحية الحماسة الخليجية لحلف مع إسرائيل. هي بكل تأكيد باتت فاقدة الصلاحية تماماً في الظروف الحالية.