«منشوراتكم لن ترعبنا، سيبقى مخيم الدهيشة قلاع الثائرين، القلعة الحمراء لن تسقط»...بتلك الكلمات ردّ الشهيد حسين قراقع على تهديدات سلطات الاحتلال الصهيوني التي ألقتها بمنشورات كالجند في مخيم الدهيشة، قبل تنفيذه عملية الدهس البطولية في القدس الشهر الماضي؛ تضمنت تلك المنشورات تحذيرات من «نشاط الجبهة الشعبية في المخيم»، ولوّحت باعتقال كل من يشارك الجبهة نشاطها في «القلعة الحمراء». وهذا الاسم هو الوصف الأدق لمخيم الدهيشة، الذي أخذ يتمدد به اليسار منذ عقود، حيث يحظى بحضور كبير لمقاومين من الجبهة، يقفون جنباً إلى جنب مع رفاقهم من الفصائل كافة لمواجهة الاحتلال. منذ أول خيمة نُصبّت على ثراه عام 1949، لنحو 3 آلاف لاجئ من نحو 79 قرية في مدن (الخليل، القدس، الرملة، غزة، بئر السبع، يافا) حتى لحظتنا هذه، يلعب المخيم دوراً هاماً في قلب معادلة العدو، في أعقاب أعمال المقاومة التي عادت تتعاظم من جديد في الضفة الغربية والقدس، منذ العام المنصرم الذي شهد نحو 12188 عملاً كفاحياً، انفردت بيت لحم بنحو 829 عملاً منها، كان لمخيم الدهيشة الذي تحتضنه المدينة نصيب منها.
وعلى رغم عدم توافر إحصائيات دقيقة، عن عدد أعمال المقاومة التي حققها ثوار الدهيشة، إلاّ أن رصد أخبار الأحداث التي يشهدها المخيم، تؤكد حقيقة تأصل النضال به، وامتداده بين أروقته؛ حيث ينتفض جلّ قاطنيه الذين يزيد عددهم على 13 ألف نسمة بوجه المحتل، رداً ورفضاً لجرائمه في المدن الفلسطينية التي ترتفع بها وتيرة المقاومة. هذا العمل المقاوم، يتحقق بدور مناضليه من «كتائب أبو علي مصطفى»، وحراس المخيم، والفصائل، بقتال المحتل، ومواجهة اقتحاماته المتتالية، واشتباكهم مع جنوده حتى آخر رمق في «القلعة»، التي ودّعت العام الماضي بشهيد، لتستقبل العام الحالي بشهيد، لحق بركب نحو مئة شهيد من المخيم ارتقوا على مدار العقود الماضية.
وبالعودة إلى نهاية العام المنصرم، تحديداً يوم الخامس من كانون الأول، شيّع مخيم الدهيشة، ابن «الجبهة الشعبية» عمر مناع، المثقف والمقاوم والأسير والجريح؛ الذي صمد باشتباكه مع جيش الاحتلال حتى ارتقى شهيداً. عاش مناع حياته مغتنماً كلّ فرصة لقنص العدو، ومقصياً كل من لا يؤمن بالمقاومة، ومشدداً على ما قاله يوماً: «لا طريق للعودة والتحرير، سوى بالكفاح المسلح، وإقصاء من لا يؤمن به».
وما لبث المخيم أن ينتهي من وضع أكاليل الورد على ضريح الشهيد مناع، حتى فُجع بارتقاء الفتى آدم عياد في اليوم الثالث من العام الجديد، حين اخترق رصاص قناص صهيوني صدر شبل «الجبهة الشعبية»، الذي اعتنق فكرها كعائلته، وعلى رغم عمره الذي بلغ 15 ربيعاً، إلاّ أنه أجاد «لعبة الموت التي عاشها بين زخات الرصاص» وفق ما نشره في وقت سابق، قبل أن يظهر آدم صلباً مبتسماً، يزف نبأ استشهاده في مقطع مرئي يُدمي ما تبقى من القلب.
الشوق لآدم، لم يحتمله رفيقه عمر الخمور، فارتقى بعد أيام، ليلحق بركب الشرف الجليل، وكان قد ختم وصيته التي حملت اسمه والشهيد البطل عدي التميمي، وبجانب الاسمين اللذين يفوحان شرفاً خطّ «وصيتي لكم»، وبدأ بالبسملة والدعاء الذي لا ينفك لسان حال المقاومين عن ترديده «اللّهم الثبات النصر أو الاستشهاد»، حتى نال ما أراد حين صوّب العدو الغدار، الرصاص نحو رأسه في أعقاب عدوانه على المخيم، ليرتقي على إثرها شهيداً في الدهيشة الذي ودع ثلاثة من مقاوميه بأقل من شهرين.
ارتقوا ثلاثة، وشهد المخيم صمود أمهاتهم، اللواتي حملن نعش فلذات أكبادهن على أكتافهن في تشييعهم، وسط أعلام فلسطين المحتلة وسورية الصامدة ورايات الجبهة الشعبية والفصائل، على وقع طلقات المقاومين المباركة، وهي تُنذر بانتزاع الثأر.
إن ما سبق، يُشير إلى تمدد حالة المقاومة الآخذة بالتصاعد في أرجاء فلسطين، والمخيم كجزء من هذا الواقع، مرّ بما مرت به فلسطين، وفرض عليه حظر التجوال في ثمانينيات القرن الماضي، وواجه اقتحامات جيش الاحتلال، وارتقى أول الشهداء منه عام 1981، وكان طفلاً، حطم الجنود رأسه بالحجارة.
تحول المخيم في السنوات الأخيرة إلى ما يشبه السجن، بعد أن أقام الكيان جدار الفصل العنصري، الذي يمر بمحاذاة المخيم، ويرتفع لنحو 6 أمتار، وخلال انتفاضة الحجارة، ضرب الاحتلال، طوقاً حول المخيم بالمكعبات الإسمنتية والأسلاك الشائكة، حتى سمي «مخيم الاعتقال الجماعي»، واستمر هذا الحصار حتى عام 1994. كما تعرض هذا المخيم، إلى الاجتياح عام 2002 بالتزامن مع انتفاضة القدس، وكالعادة قوبل هذا الاجتياح بمواجهة كبيرة. وفي عام 2015، هدد أحد ضباط الاحتلال، شباب المخيم، بأنه سيجعلهم جميعاً معاقين، ونفذ الاحتلال، تهديد ضابطه، باستهداف شبان المخيم في ركبهم اليسرى تحديداً.
تلك الأحداث، والظروف التي عاشها أهالي المخيم جيلاً بعد جيل، لم توقفهم، ولم تدفعهم للتردد، فكما يردد بعضهم، أرواح الشهداء «تطارد العدو بزقاق المخيم»، هذه العبارة خطت يوماً، وتترجم فعلاً في مواجهة العدو داخل المخيم وخارجه.