تسارعت الأحداث في السودان على إثر تصريحاتٍ أدلى بها نائب رئيس "مجلس السيادة"، محمد حمدان دقلو (حميدتي) في شباط الفائت، وصف فيها انقلاب تشرين الأوّل 2021 بأنه "كان خطأ"، قبل أن يعود، مطلع الشهر الجاري، إلى تأكيد دعمه لـ"الاتفاق الإطاري" (الذي يهندسه فعلياً "مجلس السيادة" بقيادة رئيسه، عبد الفتاح البرهان)، ودعوة قادة الجيش إلى "تسليم السلطة للمدنيين"، وهي الدعوة التي كرّرها أيضاً شقيقه ونائب قائد قوّات "الدعم السريع"، عبد الرحيم دقلو. وبغضّ النظر عن مدى جدّية خطاب حميدتي وشقيقه، فإن زيارة الأوّل للإمارات، والحديث المتزايد عن ضرورة دمْج "الدعم السريع" بالجيش النظامي، وحادث مقتل متظاهر سوداني قبل أسبوع (أَنذر بتجدّد موجة عنيفة من التظاهرات، وأثاره فولكر تورك، مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، في اجتماع في جنيف في الـ3 من الجاري)، وما تَردّد أخيراً عن مقابلة سرّية بين البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قبل أسابيع، في الوقت الذي حَضر فيه السودان (لا سيّما وضعه الأمني) بقوّة على أجندة لقاء رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، مارك ميلي، وأعضاء الوفد رفيع المستوى المُرافق له نظراءهم في إسرائيل (الـ3 من آذار)... كلّها تطوّرات تنبئ، إلى جانب تراجُع تأثير "الاتّفاق الإطاري" إلى حدوده الدنيا، بوجود عملية ظلّ حاكمة لمجمل مسار المرحلة الانتقالية في هذا البلد، على نحوٍ يجعل من تكوين حكومة مدنية مسألة هامشية لن يمثّل حلّها إضافة جادّة تُذكر إلى هذه المرحلة.
«الاتفاق الإطاري» ما بعد «الوُرش»
كشفت الوُرش المتعاقبة التي حضرها ممثّلون للقوى الداعمة لـ"الاتفاق الإطاري"، وتلك الممانعة تكتيكياً له، عن مستوى بالغ السطحية في مقاربة مشكلات المرحلة الانتقالية في السودان، مِن قَبيل طبيعة التحوّل الديموقراطي المرتقَب، وحماية الدولة السودانية من مزيد من الانهيار السياسي والاقتصادي، وتحقيق إجماع وطني ضروري لم يَعُد رفاهية. إذ ركّز المشاركون على مبدأ المحاصصات المنتظَرة في حال تشكيل حكومة، وأعادوا اجترار مناقشات حول طبيعة العلاقات العسكرية - المدنية، كما أثاروا فكرة غير واقعية حول تضمين الدستور السوداني (الذي لم يُتَّفق بعد على آليات واضحة لوضعه) مبدأ علمانية الدولة، بينما تُواصل القيادة العسكرية تبنّي مقاربة مغايرة تماماً لـ"الإطاري"، بالتنسيق مع أطراف إقليمية ودولية.
وعلى سبيل المثال، كشف "إعلان سياسي" مشترك بين "الحرية والتغيير - الكتلة الديموقراطية" (بقيادة جعفر الصادق الميرغني)، و"الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال" (عبد العزيز الحلو)، في نهاية جولة محادثات 21 - 23 شباط الفائت، عن تَوجّه إلى تكريس هذه الرؤى القاصرة والكفيلة بإبقاء تشوّه المرحلة الانتقالية. إذ رأى الطرفان أن "تجاوز أخطاء الماضي، والخروج من فشل الدولة السودانية نحو رحاب دولة حديثة، يستدعي قيام تحالفات سياسية على أساس الحدّ الأعلى في مرحلة إعادة التأسيس، وتجاوز تحالفات الحدّ الأدنى"، وتقديم "مشروع الدولة والمشتركات الوطنية العليا على ما سواها"، ووجوب ارتكاز الدستور على "فصْل الدين عن الدولة"، مؤكّدَين في الوقت نفسه أن دور الدين في المجتمع "أساسي ولا تنازل عنه". كما دعَوَا إلى أن يقوم نظام الحُكم على "اللامركزية السياسية والإدارية والقانونية والمالية والأمنية"، وأن يرتكز على الوحدة الطوعية "والإرادة الحرّة لشعوب السودان". وبالمجمل، حمل البيان صياغة مضطربة للغاية، تعجز عن تقديم أفكار واضحة بخصوص علمانية الدولة وهويّتها وشكلها، على نحو يخصم كثيراً من مطالب "ثورة ديسمبر"، كحَراك وطني شامل، لصالح مطالب محاصصات سياسية واقتصادية وأمنية لم تُثبت التجارب السابقة نجاحها وفق "اتّفاق جوبا للسلام".
واستمرّت هذه الرؤية هي الغالبة، من دون تقديم أيّ بدائل واقعية، كما اتّضح في نهاية شباط في بيان لِما يُعرف بـ"اللجنة التنسيقية العليا للمُوقّعين على الاتفاق الإطاري"، رأت فيه أن سلوك قادة الجيش يعوّق جهود التوصّل إلى حلّ سياسي، منتقِدةً "نظام الانقلاب" على خلفيّة مطالب قادته بدمج قوّات "الدعم السريع" في الجيش، معتبرةً أن "النظام لا يريد أيّ نجاح للعملية السياسية بعد رفضه خلْق بيئة" تقود إلى ذلك. كما أكّد أعضاء في اللجنة أن فُرص "الحلّ الإطاري باتت ضئيلة" بسبب عمليات القتل التي ينتهجها الجيش. والجدير ملاحظته، هنا، أن القوى المدنية لا تتبنّى موقفاً واضحاً من مسألة قوّات "الدعم السريع" ودمْجها في القوّات النظامية، ما يشير إلى نوع من التأثير عليها من قِبَل حميدتي، ومن ورائه دول إقليمية أبرزها الإمارات التي تعوّل بالأساس على استدامة الأزمة وإحكام السيطرة على مخرجاتها، فيما تُساوقها القوى المدنية بِرِهان بالغ القصور والفردانية.
المرحلة الانتقالية باتت برمّتها، في ضوء غياب أجندة وطنية محدَّدة يمكن البناء عليها، ضرباً من العبث الكامل


توحيد المؤسّسة العسكرية: خيارات محدودة
في ما لا يَبعد عن تعقيد مسألة توحيد المؤسّسة العسكرية، ومطالب ضمّ قوّات "الدعم السريع" إليها، تناول تقرير لـ"وول ستريت جورنال" (الـ3 من الجاري) حضور القوّات السودانية في قلْب تفاعلات خلاف سعودي - إماراتي في اليمن، تصاعَد منذ نهاية العام الماضي - بحسب التقرير - عقِب نشْر الرياض قوّات سودانية في مناطق قريبة من تلك التي يسيطر عليها الإماراتيون، في خطوة ظهّرت توتّراً مكتوماً بين "الحليفَين" الخليجيَين، ودفَعت الإمارات إلى الامتناع عن المشاركة رفيعة المستوى في القّمة العربية - الصينية في الرياض (كانون الأوّل 2022)، حيث اكتفت بإرسال حاكم إمارة الفجيرة إليها. لكن هذا المسار يكشف أيضاً عن طبيعة الانقسامات بين دقلو والبرهان، وربّما تبنّي الأوّل الرؤية الإماراتية، بينما لا يمكّن الثاني الخروج عن المدار السعودي بأيّ حال من الأحوال، مع ملاحظة أن "الدعم السريع" ظلّ المورد الأساسي لمجموعات القوّات السودانية المساهِمة بشكل منتظم في الحرب السعودية على اليمن، كما أن عناصرها مرشّحة بقوّة لأدوار مماثلة في دول جوار السودان.
يُضاف إلى ما تَقدّم، أن خطاب قادة "الدعم السريع"، الداعم لحكومة مدنية، و"المناوئ" لاستمرار هيمنة الجيش على مفاصل المرحلة الانتقالية، بدا خارج السياق تماماً، قياساً إلى ما يدور على الأرض في غربي إقليم دارفور، حيث يظلّ التوتّر منذ شباط الفائت قائماً، ويغذّيه استمرار وجود تلك القوّات في الإقليم، وارتكابها انتهاكات جسيمة بحقّ سكّان المنطقة، وانتشارها على امتداد حدود السودان مع تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى. ولعلّ ذلك ما يعزّز من فرضيّات تَورّطها في أنشطة في دول الجوار (مع انتشار مكثّف للمعارضة التشادية المسلّحة في شمالي جمهورية أفريقيا الوسطى)، بالتنسيق مع أطراف إقليمية ودولية، ومن خارج مظلّة البرهان، في ما قد يؤشّر إلى دور إقليمي متصاعد لدقلو الذي تكرّرت زياراته أخيراً للإمارات تحديداً، ووردت تقارير عدّة عن ارتباط مقاتليه بأنشطة مجموعة "فاغنر" في دول جوار السودان.

الأدوار الخارجية: مشروطيّة الظلّ
لم يُخفِ الجدل الداخلي المتصاعد، وتكرار طرْح قضايا خلافية قبل إطلاق عمليات سياسية وتشريعية ضرورية (مِن مِثل تحديد مواعيد للانتخابات العامّة، وطرْح مسألة الدستور السوداني وآليات وضعه بوضوح، وما إلى ذلك)، وجود تأثير خارجي متصاعد في مسار المرحلة الانتقالية. فقد أعلنت الخارجية الإسرائيلية، مثلاً، قبل شهر، التوصّل إلى اتّفاق نهائي لتطبيع العلاقات مع السودان (ربّما بعد مقابلة البرهان ونتنياهو)، على أن يُعقد احتفال التوقيع "عقِب نقْل السلطة من الجيش إلى حكومة مدنية في الخرطوم"، في ما يُعدّ مؤشّراً واضحاً على أن الحكومة المدنية المرتقَبة ستكون بصلاحيات أكبر، وأن هدف إجراء انتخابات بنهاية المرحلة الانتقالية سيكون لصالح تكريس سلطة هذه الحكومة بغضّ النظر عن حجم قاعدة التأييد الشعبي لها. كما أن التدخّل المتكرر للإمارات في توجيه عدد من أبرز قادة المرحلة الانتقالية نحو تبنّي سياسات تصادمية - شكلياً على الأقلّ - مع قيادة الجيش السوداني، واستهداف تحقيق مكاسب معروفة لأبو ظبي في السودان ودول جواره على حساب مخاوف الخرطوم الأمنية والسياسية، إنّما يدلّل على تعاظُم الضغط على الأخيرة لنقل السلطة إلى حكومة مدنية لن يمكنها في واقع الأمر رفْض أيّ "استحقاقات" لاحقة لهذا "الدعم".
ومع تراجُع الانتقادات الأميركية المباشرة للبرهان ونظامه، وكذلك الاطمئنان الأميركي إلى مجمل سياسات إسرائيل في السودان وتشاد وعدد من دول وسط أفريقيا وشرقها، يبدو جلياً أن إدارة ملفّ السودان - من زاوية المصالح الأميركية - باتت منوطةً بإسرائيل بشكل أكبر من ذي قبل. ويعني ذلك، بالتبعية، تراجعاً حادّاً في أدوار فاعلين إقليميين آخرين في السودان، وربّما بمستوى غير مسبوق منذ عقود، لتقتصر في المرحلة المقبلة على تنفيذ سياسات وتوجيهات تكتيكية على نحو يخدم هذه الرؤية الأميركية - الإسرائيلية لمستقبل البلد الأفريقي وإعادة دمجه في "المجتمع الدولي"، من دون أن يعني هذا قدرة الأطراف الإقليمية المُشار إليها على تحقيق الحدّ الأدنى من مصالحها والتغلّب على مخاوفها، أو حتى ضمان عدم إضافة تهديدات مستجدّة لها.

خلاصة
على رغم خروج "الاتّفاق السياسي الإطاري"، في نهاية العام الماضي، في أجواء متفائلة ووسط توقّعات "متسرّعة" بالتزام صارم بتوقيتاته من قِبَل أطرافه كافة، فإن المرحلة الانتقالية باتت برمّتها، في ضوء غياب أجندة وطنية محدَّدة يمكن البناء عليها، ضرباً من العبث الكامل، لاعتبارات عدّة أبرزها أن الحوار السياسي الذي كان مفترضاً للوصول إلى مخرجات واضحة أصبح مجرّد منصّة لتكرار فجّ لقضايا وأطروحات سابقة، وربّما تصوّرات شخصية للغاية. وبالتوازي مع ذلك، تستمرّ التفاعلات الخارجية - وبقوّة ملموسة في الأسابيع الأخيرة - في فرْض مشروطيات معقّدة ومكلِفة على السودان، من دون أن يعني هذا توقّع وصول "آمن" إلى نهاية المرحلة الانتقالية، بل هو قد يحيل إلى التيقّن من أن الاكتفاء بما تواضَع عليه "شركاء السودان" لناحية نقْل السلطة إلى حكومة مدنية، سيطيل أمد "الانتقال" لسنوات أخرى، لتظلّ التسوية السياسية الجوهرية بعيدة المنال، وهدفاً يَجري - في واقع الأمر - تسويقه لإدامة الأزمة، والتمكين من التلاعب بمقدّرات البلاد.