تونس | لا تزال السلطات التونسية، على رغم اشتغالها على لملمة الفضيحة التي أثارتها تصريحات الرئيس قيس سعيّد، الذي رأى أن وجود أفارقة من جنوب الصحراء في بلاده «محاولة للتوطين»، تتعاطى مع الأمر بإنكار الطابع العنصري لِمَا ورد على لسان رئيسها. وإلى التظاهرات المندّدة التي خرجت اعتراضاً على «التوجّهات الفاشية» للسلطة، انسحبت الأزمة لتطال المستويَين الاقتصادي والدبلوماسي، في ظلّ مطالبة العديد من الدول الأفريقية بسحب سفرائها من العاصمة التونسية، وتعليق اتفاقات ثنائية بينها وبين الأخيرة، وإنْ كان النظام، كما في كلّ مرّة، يحاول تحميل مُعارضيه مسؤولية أفعاله
تتسارع الأحداث في تونس، بما يُنذر بتحوّلات لا يزال من المبكر التنبّؤ بمآلاتها. فقد تميّزت نهاية الأسبوع المنقضي بتنظيم تظاهرتَين، دعا إلى الأولى، التي خرجت السبت، «الاتحاد العام التونسي للشغل»، احتجاجاً على ما اعتبره «تزايداً للانتهاكات وضرباً للحقوق والحريات»؛ فيما دعت «جبهة الخلاص» المعارِضة إلى الثانية، الأحد، تحت عنوان سياسي صرْف لائتلاف يرى ما أقدم عليه الرئيس قيس سعيّد، في 25 تموز 2021، «انقلاباً». وبينما نادت هذه بـ«إسقاط النظام»، ندّدت تلك التي انضمّ إليها نشطاء مدنيون وسياسيون، بالحملة العنصرية التي طالت عدداً كبيراً من المهاجرين واللاجئين والطَلَبة الأفارقة، وبما اعتبرته توجُّهاً «فاشيّاً».
وكان الحدث الأبرز على الساحة التونسية، قد تَمثّل في المأزق الدبلوماسي الذي تسبّبت به تصريحات سعيّد التي وُصفت بـ«العنصرية»، بعدما رأى أن وجود أفارقة من جنوب الصحراء في بلاده «محاولة للتوطين». وقد نتجت من تصريحه هذا، حملة إلكترونية عنصريّة آلت إلى اعتداءات بالعنف على عدد كبير من الطَلَبة واللاجئين والمهاجرين النظاميين وغير النظاميين، ما أَجبر عدداً من الدول الأفريقية على تنظيم رحلات عاجلة لإجلاء رعاياها، فيما اضطرّ كثير من هؤلاء إلى ملازمة منازلهم، وقد وصل الأمر إلى مطالبة بعض هذه الدول بسحب سفرائها. كذلك، كانت لتصريحات سعيّد انعكاسات اقتصادية، وتداعيات خطيرة على التبادل الثنائي بين تونس وعدد من البلدان الأفريقية، مِن مِثل وقْف تفريغ بضائع تونسية في عدد من الموانئ الأفريقية، وإلغاء صفقات تجارية، واعتذار عدد من رجال الأعمال والمسؤولين الأفارقة عن عدم حضور فعاليات كانت مُبرمجة في تونس، وخصوصاً بعدما قرّر «الاتحاد الأفريقي» تأجيل مؤتمره حول «مكافحة التدفّقات المالية غير المشروعة في أفريقيا»، والذي كان من المُنتظر عقْده في تونس، من 15 إلى 17 الجاري.
وعلى إثر ردود الفعل الساخطة تلك، سارعت جهات رسميّة إلى محاولات التبرير، موضحةً أن المُراد هو «تطبيق القانون ضدّ الهجرة غير النظاميّة». وعلى الخلفية نفسها أيضاً، عقد وزير الخارجية، نبيل عمار، وعدد من ممثّلي المؤسّسات المعنية بالهجرة، أوّل من أمس، ندوة صحافية في مقرّ الوزارة، رأى فيها أن الأمور اتّخذت هذا الاتّجاه «بفعل فاعل»، مشيراً إلى الحملة التي تبعت تصريحات الرئيس. وجاءت هذه الندوة بعد يوم من صدور بلاغ عن رئاستَي الجمهورية والحكومة، يتضمّن جملة إجراءات تخصّ الأفارقة جنوب الصحراء، من بينها: منْح بطاقات إقامة لمدّة سنة قابلة للتمديد للطَلَبة، وتسهيل المغادرة الطوعية مع الإعفاء من دفْع خطايا التأخير.
يتميّز تعاطي السلطات التونسية مع هذه الأزمة بإنكار الطابع العنصري لتصريحات عدد من مسؤوليها


ولم تمضِ ساعة على مؤتمر عمار، حتى نشرت وكالة «رويترز» فحوى رسالة وجّهها رئيس «البنك الدولي» إلى الموظّفين، الأحد، جاء فيها: «أن البنك أَوقف نشاطه مع تونس بعدما أثارت تصريحات رئيس البلاد في شأن المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء، مضايقات وأعمال عنف بدوافع عنصرية». لكن المؤسسة الدولية سارعت إلى نفي ما أوردتْه «رويترز»، موضحة أنها قامت «بتعليق المناقشات بشكل مؤقّت حول إطار الشراكة القُطْريّة للبنك الدولي مع تونس، والذي يحدّد التوجّهات الاستراتيجية لأنشطة العمليات في المدى المتوسّط (2023-2027). ويستمرّ الحوار والتواصل مع السلطات التونسية»، ما يبيّن أن المؤسّسة المالية الدولية بصدد مراجعة شراكتها مع الدولة التونسية. ولم ينفِ البيان التوضيحي أن يكون قد راسل موظّفيه بخصوص الأحداث الأخيرة في تونس، والتي تثير، بحسبه، «قلقاً عميقاً لمجموعة البنك الدولي وموظّفيها».
من جهتها، أعربت وزارة الخارجية الأميركية، على لسان الناطق باسمها، نيد برايس، عن «قلقها البالغ إزاء تصريحات الرئيس التونسي في شأن الهجرة والتقارير عن اعتقالات تعسفيّة»، وحثّت السلطات التونسية على احترام التزاماتها المتعلّقة بحماية حقوق اللاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين. وجاء الموقف الأميركي متأخّراً مقارنة بموقف «الاتحاد الأفريقي» الذي وصف ما صدر عن سعيد بـ«خطاب كراهية عنصري».
في هذا الوقت، نُظّمت فعاليات مدنية في عدد من شوارع العاصمة تنديداً بتصريحات سعيّد وتوجّهات النظام تجاه الأفارقة، فيما أسّس عدد من النشطاء ما سمّوه «جبهة مناهضة الفاشية» التي تعرّف عن نفسها بأنها «جبهة لمقاومة السياسات والخطاب والممارسات العنصريّة والاستبداديّة». كذلك، انتظمت تنسيقيات مدنيّة لتوفير المؤونة للاجئين الذين لازموا بيوتهم، قبل أن يتعرّض المُتضامنون لحملة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، سرعان ما تحوّلت إلى محاولات اقتحام لمقارّ الجمعيات التي فَتحت أبوابها لتلقّي المساعدات، على غرار «جميعة كلام»، ومقرّها العاصمة. في المقابل، لا تزال السلطات التونسية تصرّ على إنكار الطابع العنصري لتصريحات عدد من مسؤوليها، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية، فيما تحاول الإيهام بأن الردود التي أعقبتها مُفتعَلة، وبأنها تأتي في إطار استهداف النظام، وبأن جهات تستثمر الأمر لأغراض سياسية. وعلى رغم أن تونس أصدرت منذ عام 2018، قانوناً يُجرّم التمييز العنصري، كما أنها مُصادِقة على كلّ الاتفاقات الدولية المتعلّقة بحقوق الإنسان، إلّا أن أيّ إجراء قضائي لم يُتّخذ في حقّ مَن يقودون الحملات «العنصرية»، ما يزيد الشكوك حول جديّة مؤسّسات الدولة التونسية في مراجعة موقفها، ووقْف هذا التوجّه الخطير.