تُذكّر الأجواء التي يعيشها الرئيس محمود عباس في الوقت الحالي، بتلك التي عايشها الراحل ياسر عرفات خلال السنوات التي سبقت اغتياله. هو - عباس - رئيس بلغ من العمر عتيّاً، وقدّم، وفق وجهة النظر الإسرائيلية، منتهى ما يمكن تقديمه من تنازلات، وأضحى أخيراً «وكيلاً أمنيّاً سيئ الخدمات»، فيما تحيط به حاشية من الطموحين إلى خلافته، والذين يرون في طرْح مزيد من أوراق اعتمادهم لدى الإسرائيليين والأميركيين، الطريق الأقصر إلى كرسيّ الرئاسة. غير أن الفارق مع عرفات، أن الأخير داس على المحظور الإسرائيلي والأميركي (دعْم المقاومة المسلّحة) الذي لم يقترب منه خلَفه الثمانيني حتى في خياله. ومع ذلك، لا يغيب عباس هذه الأيام عن طاولات صنّاع القرار.

«لم ينتهِ عرفات يومَ مات مسموماً، إنّما أُعدم حينما فَتح المقرّبون منه قنوات تَواصل سرّية مع الأميركيين والإسرائيليين، ورفعوا عنه الغطاء العربي والدولي، وروّجوا فيها أنه يدعم العنف، ولم يَعُد شريك سلام مناسباً للقيادة، وأنهم جاهزون لملء الفراغ بَعده». هذه السطور تلخّص شهادات العشرات من المقرّبين من «أبو عمار» في محاضر التحقيق في مقتله، والتي يواصل موقع «أيقونة الثورة» تسريبها. قال ذلك المضمون أحمد قريع وصائب عريقات وإسماعيل جبر ومحمد رشيد وروحي فتوح، وغيرهم من حرّاس عرفات والمقرّبين منه.
الهاجس ذاته يعيشه رئيس السلطة الحالي، والذي تصل إليه تقارير تباعاً، تُظهر تَواصل أقطاب السلطة المتنافسة مع الإسرائيليين والأميركيين من دون الرجوع إليه والتنسيق معه. وتَكشف مصادر «فتحاوية» مطّلعة، في حديثها إلى «الأخبار»، أن صراعاً محموماً تعيشه الدوائر المقرَّبة من عباس، عنوانه مرحلة ما بعد «أبو مازن»، العنوان الذي بالكاد تخلو منه صحيفة إسرائيلية يومياً. ووفقاً للمصادر، فإن عدّة أقطاب «فتحاوية» تتصارع اليوم في «حَلبة» التجهّز لتلك المرحلة، أبرزهم «حسين الشيخ وماجد فرج وجبريل الرجوب ومحمد دحلان وناصر القدوة». وبينما لا يزال القائد الأكثر شعبية وحظّاً مروان البرغوثي يقبع في السجون، تفيد المعلومات بأن «الشيخ طلب في اجتماع مع مُوفدي لجنة الشؤون العامّة الأميركية - الإسرائيلية (أيباك)، العمل على عدم إطلاق سراح مروان البرغوثي، لأن من شأن خروجه أن يَدعم الإرهاب، وقدّم نفسه بوصْفه القادر على فرْض الأمن في الضفة الغربية المحتلّة».
يريد الشيخ أن يَجمع بين متناقضَين متوازيَين: استرضاء الأميركيين، وصناعة حاضنة شعبية في الضفة وغزة


كذلك، دخل الشيخ ورئيس جهاز المخابرات العامّة ماجد فرج، مرحلة استقطاب حادّ بعد سنوات من العمل سويّاً ضدّ خصومهما مِن مِثل جبريل الرجوب ورامي الحمد الله ومحمد أشتية وزياد هب الريح. وفي هذا المجال، تُبيّن المصادر أن «نقطة التنافس بين الرجلَين هي أن كليهما يَستخدمان الوسائل نفسها في محاولة الظفر بكرسيّ الرئاسة، والتي تتمثّل في التمادي في تقديم الخدمات الأمنية للاحتلال من دون مقابل سياسي، وفتْح قنوات تَواصل مع أجهزة مخابرات غربية، بمعزل عن حجم السلطة ودورها الوطني. وبعد الإطاحة بتوفيق الطيراوي، لم يتبقَّ سوى الصدام الثنائي». في ماراثون السباق أيضاً، يتقدّم محمد دحلان الصفوف، بوصْفه صاحب الحظوة الإقليمية الأكبر، والرجل الذي يتمترس وراء كثير من التسريبات التي شطبت مستقبل «أحجار» عديدة وفتحت الطريق أمام أخرى على رقعة الشطرنج، وفق ما يقول مصدر مقرّب منه لـ»الأخبار»، مضيفاً أنه «إذا كانت فرضيّة ظفره بكرسيّ الرئاسة ليست حاضرة لكثير من العقبات، فإنه سيبقى قادراً طوال الوقت على لعِب دور بيضة القبّان، في ترجيح كَفّة مَن يريد، وشطْب المستقبل السياسي لِمَن يريد أيضاً».
«أنا رئيسكم القادم؛ لم يتبقَّ للشيخ إلّا أن يقولها على الملأ، هذا ما ينبئ به سلوكه وحَراكه الإقليمي والدولي»، يقول الباحث السياسي، مجد ضرغام، مضيفاً: «يريد الشيخ أن يَجمع بين متناقضَين متوازيَين: استرضاء الأميركيين، وصناعة حاضنة شعبية في الضفة وغزة، الأمر يشبه خلْط الزيت بالماء. أبو مازن أشْعره حين فَرضه أميناً لسرّ اللجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير، بأنه قدَر الفلسطينيين القادم، والذي ليس لأبو مازن أن يُغضب الأميركيين باعتراض طريقه». ويتابع ضرغام، في حديثه إلى «الأخبار»: «ساهم أبو مازن في زيادة انتفاخ الشيخ، ومضى الأخير في غروره إلى الحدّ الذي صار يَشعر فيه بأنه أكبر من ماجد فرج وحتى أكبر من الرئيس عباس نفسه، هذا كلاكيت مكرَّر لحقبة الثنائي عباس وعرفات»، مستدركاً بأن «عباس أسْهم طوال عامٍ ونصف مضت، في حرْق آخر أوراق حسين الشيخ شعبياً، عبر وضْعه في مواجهة خلايا المقاومة الناشئة في الضفة التي تحظى بدعم شعبي جارف، وفي مكانة المُدافع عن قمّة أمنية تمتّ تعريتها، فضلاً عن أن توفيق الطيراوي أُسقط فقط لأنه تعرّض للشيخ في تسجيل مسرَّب»، مستنتجاً أن «كلّ تلك الوقائع التي تزاحمت في السجلّ الشعبي للشيخ سرّعت من سقوطه، لذا يدرك الأميركيون أن إمكانية فرْضه رئيساً هو أمر مستحيل، وأن من يبدو وكأنه الأقوى على صعيد الأمن والمناصب، هو فعلياً الأضعف في بازار الرئاسة».