على رغم الضغط الشعبي والفصائلي، لم تَجد قيادة السلطة الفلسطينية خياراً سوى أن تُذعن للمشاركة في اللقاء الخُماسي في العقبة، والذي حضره إلى جانب الفلسطينيين والإسرائيليين، كلٌّ من الأردن ومصر والولايات المتحدة. نجْم المشهد الفلسطيني، كان أمين سرّ «اللجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير الفلسطينية»، حسين الشيخ، الذي وُضع في فوّهة النار، أمام شارع ملتهب لم يتجرّع بعدُ جريمة قتْل 11 شهيداً في وضَح النهار خلال ثلاث ساعات. التوقيت الذي اقتحمت فيه قوّات الاحتلال البلدة القديمة في نابلس في 22 شباط الماضي، جاء أيضاً، بعد 48 ساعة من فتْح السلطة قناة تواصُل مع حكومة الاحتلال. ووفقاً للشيخ، فإن إسرائيل «أُجبرت مكرهةً» على فتْح هذه القناة بضغوط من «جهة ما»، لتعْمد السلطة إلى تقديم 13 شرطاً لرئيس «مجلس الأمن القومي»، تساحي هنغبي، تتضمّن وقْف كافة الإجراءات الإسرائيلية الأحادية، مقابل أن تعمل هي على استعادة الهدوء في شمال الضفة الغربية. يقول الشيخ، في لقائه عبر «تلفزيون فلسطين» الحكومي: «ارتكبت إسرائيل المجزرة في وضَح النهار في نابلس، في الوقت الذي كان يَجري فيه الإعداد والترتيب بيننا وبين أشقّائنا العرب والإدارة الأميركية للقاء الخُماسي الذي أعددْنا جدوله على أن يكون لقاءً سياسياً أمنياً اقتصادياً، ورحّبنا على هذا الأساس بالتوجّه إليه (...) وبعد ارتكاب المجزرة، وُضعنا في أصعب خيار، وقرّرنا التوجّه إلى العقبة بكلّ جرأة عندما وجدنا أن إسرائيل في الزاوية، البعض يقول إن هذا القرار فردي، لكن أنا عندي محاضر الاجتماعات التي تؤكّد أن القرار جماعي، أقرّتْه القيادة الفلسطينية».الشيخ حاول، طوال ساعة تلفزيونية كاملة، أن ينفي عن قمّة العقبة السِمة الأمنية، وأن يَظهر بطابع «الجندي» الذي ينفّذ تعليمات الرئيس محمود عباس. كرّر قوله مِراراً إن الهدف من الذهاب إلى العقبة، هو «الوصول إلى عملية سياسية أكثر شمولية تقود إلى تحقيق السلام العادل والشامل»، وإن السلطة وعباس كانا يقفان بين «الخيار المريح» وهو عدم الذهاب، و»الخيار الصحيح» وهو المشاركة، فاختارا الثاني على رغم الانتقادات، لأنه إنْ لم تذهب السلطة، لاتُّهمت من عدّة أطراف بأنها «رفضوية»، وأنها «أضاعت فرصة تاريخية لحلّ الصراع». غير أن ما تحدّث به الشيخ بكلّ ثقة، بدا مفاجئاً لزملائه في البيت نفسه، خصوصاً لناحية حديثه عن الإجماع. إذ أكد عضو «اللجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير»، رمزي رباح، في تصريح إلى إذاعة «أجيال» صباح الثلاثاء، أن اللجنة لم تجتمع منذ شهر، وأن الاجتماع الذي أشار إليه الشيخ هو اجتماع لجنة قيادية لمتابعة أمرَين: استمرار وقْف «التنسيق الأمني» (نظرياً)، ومعرفة المستجدّات بالنسبة للمطالب التي قُدّمت للإدارة الأميركية، ولم يكن قد وصل إليها ردّ من الولايات المتحدة. وأعرب رباح عن صدمة أعضاء في «التنفيذية» من وجود قناة سرّية للشيخ مع الإسرائيليين، قائلاً إنه عند الاطّلاع على تفاصيل ما يُبحث في تلك القناة، تَبيّن أن إسرائيل تطالب بالعمل على وقف التصعيد وما تسمّيه «العنف»، من دون تقديم أيّ تعهّد بوقف الإجراءات الأحادية من طرفها.

قمّة أمنية بحتة
الباحث السياسي المحسوب على حركة «فتح»، عزيز المصري، يرى، بدوره، أن قمّة العقبة هي قمّة أمنية بامتياز، وذلك بالنظر إلى خلفيّة الشخصيات المشارِكة من الجانب الإسرائيلي فيها، فضلاً عن تباحثها في إمكانية تطبيق خطّة أمنية لفرض سيطرة السلطة في شمال الضفة. ويَعتبر المصري، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «الجوانب الاقتصادية لا يمكن فصْلها عن الجانب الأمني، فهي نتيجة مكافأة للجهد الأمني المطلوب بذلُه»، مضيفاً أن «القمّة لم تتناول الملفّات السياسية للصراع مِن مِثل اللاجئين والقدس والحدود وما يُعرف بقضايا الحلّ النهائي. وبالنظر إلى طلبات السلطة الفلسطينية، يتبيّن أنها طلبات أمنية واقتصادية، ولا يوجد من بينها طلب واحد يحمل جانباً سياسياً».
واحد من أهمّ نتاجات «العقبة»، هو «محاولة تعويم حسين الشيخ وتصديره بثوب رجل المرحلة»


جدير بالذكر أنه شارك عن دولة الاحتلال عددٌ من الشخصيات الأمنية، أبرزها مستشار «الأمن القومي»، تساحي هنغبي، إلى جانب رئيس جهاز الأمن العام «الشاباك»، رونين بار، ومنسّق عمليات حكومة الاحتلال في الضفة، غسان عليان، ورئيس الشعبة السياسية الأمنية في وزارة الجيش، درور شالوم، إلى جانب مدير عام وزارة الخارجية، رونين ليفي. أمّا عن مصر، فقد شارك وزير المخابرات، عباس كامل؛ وعن السلطة الفلسطينية كلّ من وزير الشؤون المدنية، حسين الشيخ، ورئيس جهاز المخابرات العامة، ماجد فرج، ومستشار الرئيس خالد الخالدي؛ وعن الأردن وزير الخارجية، أيمن الصفدي، ومدير دائرة المخابرات العامّة، أحمد حسني؛ وعن الولايات المتحدة كلّ من مساعِدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، باربرا ليف، ونائب مساعد وزير الخارجية للشؤون الإسرائيلية والفلسطينية، هادي عمرو.
ويَلفت المصري إلى أن «السلطة شاركت من موقع عدم القدرة على قول لا للأردن وللإدارة الأميركية، وهي مرغَمة على الذهاب إلى القمّة، وهي تعلم أنها لم تُحرز أيّ مكسب حتي في الشؤون الأمنية»، مضيفاً أن «ما ينفي أيضاً مزاعم أنْ تكون القمة ذات أيّ طابع سياسي، هو أن الحكومة الإسرائيلية الموجودة الآن تُعلن بشكل صريح عبر نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، أنها حكومة حسْم صراع وليست إدارة صراع، وبالتالي هي ترفض بشكل مطلق مناقشة جوانب سياسية، بل أقطابها هم مِن أوائل مَن عارضوا اتّفاقيات أوسلو والحلّ السلمي مع الفلسطينيين».

ماتت في مخاضها
عقِب انطلاق أعمال القمّة بأقلّ من ساعتَين، تَرك مقاوم في حاجز حوارة توقيعه، لكن ليس على «ما سيعترف به أو يُنكره حسين الشيخ»، وفق ما يقول المحلّل السياسي، إسماعيل محمد، مضيفاً، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «عملية حوارة لم تَقُل إن قمّة العقبة ولدت ميتة، إنّما ماتت في المخاض قبل ولادتها، لأن الردّ الإسرائيلي على العملية جاء سريعاً، حيث قال بن غفير، إن ما اتّفقتم عليه في الأردن يبقى في الأردن، فيما هاجمت قطعان المستوطنين حوارة في أكبر اعتداء همجي منذ أكثر من 15 عاماً».
وفيما أعلن البيان الختامي للقمّة اتّفاق كلّ الأطراف على الالتزام بالاتّفاقيات المُوقَّعة - بما يعني ضمناً عودة «التنسيق الأمني» رسمياً -، وخفْض التصعيد على الأرض، ومنْع المزيد من العنف، ووقْف الإجراءات أحادية الجانب لمدّة 3 إلى 6 أشهر، يرى المصري أن «حصول سموتريتش على صلاحيات في وزارة الدفاع تَجعله الحاكم الناهي في الضفة الغربية عبر الإدارة المدنية وملفّ الاستيطان، ينفي وجود أيّ بُعد سياسي في قمّة العقبة أو في برنامج الحكومة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين». أمّا المطلوب من القمّة، فإن كلّ جانب لديه ما يريد منها، وفق المصري، الذي يبيّن أن «الأردن أراد التعهّد بالحفاظ على الوصاية الهاشمية في الحرم القدسي، والإسرائيلي استهدف تهدئة الشارع قبيل شهر رمضان المبارك، والأميركي يريد التفرّغ للصراع الأوكراني - الروسي ويحاول قدْر الإمكان تسكين الجبهات في الإقليم. أمّا فلسطينياً، فالسلطة في أقصى درجات الضعف، وهي تتطلّع إلى تهدئة الشارع للحفاظ على وجودها وعدم الاصطدام بواقع مشابه لعملية السور الواقي عام 2002».

أبعد من الأمن والسياسة
واحد من أهمّ نِتاجات «العقبة»، هو «محاولة تعويم حسين الشيخ وتصديره على الصعيد الدولي والمحلّي بثوب رجل المرحلة»، وفق ما يرى إسماعيل محمد، مضيفاً أن «الفعالية التي يُظهرها الشيخ لناحية الجرأة على التحرّك والتواصل والاجتماع مع الإسرائيليين، بينما يعيش الشارع حالة من الغليان، تُظهره وكأنه رجل فلسطين الأوّل، على الأقلّ في نظر الأميركيين والإسرائيليين، وأنه البديل الأنسب لمرحلة ما بعد عباس».
غير أن مصادر «فتحاوية»، فضّلت عدم الكشف عن هويّتها، تَعتبر، في حديث إلى «الأخبار»، أن «مَن يتتبّع الصعود الصاروخي للشيخ خلال العامَين الماضيَين، يدرك أن الأوساط الفتحاوية التي فتحت له الطريق لهذا الصعود، لا سيما الرئيس عباس، أرادت أن تُحرق ورقته شعبياً، وتدمّر مستقبله السياسي، وإنْ بدت أنها مذعنة للرغبات الأميركية والإسرائيلية في فَرضه». وتتابع المصادر: «بينما الشارع الضفّاوي يغلي، تمّت تعرية قمّة العقبة التي جلس فيها الشيخ وجهاً لوجه مع غسان عليان ورونين بار. هناك مَن يدفع حسين ليبدو نجم الحدث، ويَظهر بدور رجل التنسيق الأول، وعدوّ المقاومة الأول، هذه السقطات والانطباعات الشعبية لا تُمحى بسهولة، وهذا هو آخر ما ينقص رجلاً يهيّئ نفسه ليشغل منصب الرئيس عبر الاحتكام إلى الشارع والانتخابات».