على مقربة من شهر رمضان، بدأ الميدان الفلسطيني يزداد اشتعالاً في وجه الاحتلال الإسرائيلي، على نحوٍ بات يُنظَر على أنه شرارة لانطلاق انتفاضة فلسطينية جديدة، لا يمنع اندلاعها فعلياً إلى الآن سوى معارضة السلطة الفلسطينية ورفْض الأجهزة الأمنية الانخراط فيها، مثلما حدث في انتفاضة الأقصى عام 2000. على أن المعطيات على الأرض تُظهر أن «الانتفاضة الثالثة» لم تعُد تحتاج سوى إلى فتيل قد يتكفّل به شهر رمضان، وهو ما سيؤدّي، في حال تَحقّقه، إلى اشتعال الجبهات الفلسطينية كافّة. ويراقب الفلسطينيون، بمختلف أطيافهم، أداء حكومة العدو الفاشية خلال الفترة الحالية، وتجاوُزها في اعتداءاتها وجرائمها كلّ الخطوط الحمراء في القدس والضفة والداخل المحتلّ فضلاً عن ملفّ الأسرى، الأمر الذي قد يؤدّي إلى انزلاق الأوضاع إلى انفجار كبير.ومع تصاعد الأحداث على غير ساحة، يتجهّز الفلسطينيون، بالفعل، لاندلاع مواجهة شاملة مع الاحتلال، تشارك فيها مختلف الجهات، بهدف ردع حكومة بنيامين نتنياهو المتطرّفة، التي يُنظر إليها على أنها ذاهبة إلى العمل على حسْم الملفّات كافة لمصلحة الكيان على حساب الفلسطينيين. وفي هذا المجال، تؤكّد مصادر فصائلية من حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، لـ«الأخبار»، أن «تقديرات المقاومة هي أن ما يجري في الضفة الغربية المحتلّة هو جزء من الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، في ظلّ تَوافر كلّ العوامل لانطلاقها»، مضيفةً أن «الدفع نحو الانتفاضة في جميع الساحات، تَعزّز بعد معركة سيف القدس، وسط تقديرات بأن يدخل الفلسطينيون في مختلف الميادين في مواجهة شاملة لردع حكومة الاحتلال في حال استمرّت في تجاوُز الخطوط الحمراء». وإلى جانب سياسة تلك الحكومة، ثمّة عدّة عوامل أخرى تدفع بدورها نحو هكذا سيناريو، في انتظار حدث هامّ يفرض على جميع الفلسطينيين الانخراط فيه، بغضّ النظر عن الكوابح التي أخّرت تَحقّقه. وعلى رأس تلك العوامل، بحسب الاحتلال ومؤسّسته الأمنية، ارتفاع الحافزية للمواجهة، بمعزل عن الأدوات التي في يد الفلسطينيين. وهي حافزية ضاعفتْها حملات الضغط الإسرائيلي من اغتيال واعتقال واقتحام للمدن الفلسطينية، والتي جاءت نتائجها بعكس توقّعات الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
تتجدّد ذاكرة الانتفاضة لدى الفلسطينيين خلال الفترة الحالية


وممّا يضاعف القلق الإسرائيلي، تراجُع مكانة السلطة الفلسطينية وقدرتها على القيام بالدور الأمني الذي يضبط الساحة الفلسطينية، فيما انهيارها سيعني بدء انتفاضة جديدة بشكل فعلي. ويَنظر الاحتلال بعين الخطورة إلى انضمام عناصر من السلطة إلى المقاومة في الضفة، على عكْس رؤية قيادة الأولى، ما يُعطي مؤشّراً إلى أن هنالك دافعية لدى عناصر الأجهزة الفلسطينية للانخراط في الاشتباك. ويُضاف إلى ما تَقدّم أن الضفة تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في عمليات المقاومة بكلّ الأشكال، وسط حالة من الاندماج بين مقاتلي جميع الفصائل، وظهور مجموعات وليدة من دون أهداف سياسية من مِثل «عرين الأسود» التي تضمّ داخلها عناصر من مختلف التنظيمات، بما فيها «حماس» و«فتح» و«الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية». وإذ يسجَّل أن سلسلة العمليات التي جرت خلال العامين الأخيرين، نفّذها الجيل الذي ولد خلال فترة الانتفاضة الثانية، فإن الأخطر هو أن تقديرات العدو تفيد بأن كلّ أبناء هذا الجيل الجديد يؤمنون بالمواجهة والانتفاضة، فيما تكيّف الكثيرون منهم مع التحدّيات الأمنية التي يفرضها الاحتلال والسلطة الفلسطينية، وباتوا يتجاوزونها، فضلاً عن أن هؤلاء لا يزالون خارج «الرادار الأمني» التابع لتل أبيب ورام الله، وأن غالبيتهم يشعرون بالإحباط والغضب وحالة من فقدان الثقة تجاه السلطة وتوجّهاتها، ويرون بأن ما يفعلونه بمثابة هَبّة ضرورية في وجه الوضع برمّته.
هكذا، تتجدّد ذاكرة الانتفاضة لدى الفلسطينيين، بخاصّة مع العودة الجزئية للزخم الجماهيري في عدد من مدن الضفة المحتلة، إذ باتت تشارك الجماهير بأعداد كبيرة جدّاً في تشييع جنازات الشهداء، فيما مثّل نموذج نابلس، وتحرّك الجماهير وفق نداءات «عرين الأسود»، مؤشّراً واضحاً إلى تجدُّد ذلك الزخم بعد سنوات من تراجعه نتيجة الإحباط الذي ولّده انعدام حدوث متغيّرات أو تحقيق إنجازات. ومن ناحية أخرى، يرى الفلسطينيون أن حجم التهديد يزداد في ظلّ تضاعُف قوة المستوطِنين المتطرّفين ونفوذهم، وبخاصّة بعد جريمتهم تجاه منطقة حوارة جنوب مدينة نابلس، ما يفرض تحدّياً لا تمكن مواجهته سوى عبر العمليات الفدائية وإطلاق انتفاضة شاملة في مختلف المناطق. أمّا الاحتلال فيرى أن حجم «التحريض» الذي يتعرّض له الفلسطينيون في الضفة والقدس والداخل كبير جدّاً، وأنه يحفّز على اندلاع هكذا انتفاضة في حال توافر عواملها جميعاً، على رغم أن هناك كوابح أمامها تتمثّل في عدم وجود موقف فلسطيني موحّد، ورفْض القيادة السياسية لحركة «فتح» و«منظّمة التحرير» إياها - وهو ما لا يفيد اقتضاءها وجود قيادة موحّدة في مختلف الجبهات تحُول دون تفرّد الاحتلال بجبهة من دون أخرى -، فضلاً عن أنه على الرغم من تصاعد العمل المقاوم في الضفة، لا يزال ضعف الهياكل الإدارية والتنظيمية واضحاً لدى الفصائل، التي يفتقد مقاتلوها في الأراضي المحتلّة حالياً إلى التدريب والمهارات القتالية والدعم. مع ذلك، يؤمن الفلسطينيون بأن الانتفاضة الجديدة ستكون أقوى وأشدّ على العدو من سابقاتها، إذ لن تبدأ هذه المرّة من الحجارة، في ظلّ توافر السلاح في الضفة بشكل جيّد، وإمكانية حمْله من قِبل الكثير من الفلسطينيين.