بعدما تسبّبت «العاصفة الزلزالية» التي ضربت تركيا وسوريا، في تأجيل الاجتماع الذي كان مقرَّراً لممثّلين عن البلدَين وآخرِين من روسيا وإيران، منتصف الشهر الحالي، بدأت الحرارة بالعودة إلى هذا المسار، مع إعلان موسكو العمل على عقْد الاجتماع الرباعي خلال الأيام المقبلة. وكانت النقاشات السورية - التركية التي انعقدت على المستوى الأمني خلال الفترة الماضية، أدّت إلى تقريب المسافة بين البلدَين، بما أريدَ أن يمّهد لاتّفاق سياسي، يسمح لتركيا بالتخفّف من عبء اللاجئين السوريين وتحصين حدودها الجنوبية من جهة، ويضمن لسوريا انسحاباً تركياً من شمالها، من جهة أخرى
على الرغم من قطْع سوريا وتركيا مسافة معقولة للبدء بحلّ القضايا الخلافية بينهما، إلّا أن اجتماعات أمنية عديدة سابقة، بعضها تمّ بشكل ثنائي بين مسؤولين أمنيين من البلدَين، وبعضها ثُلاثياً بحضور مسؤولين روس، لم تتوصّل إلى صيغة نهائية تسمح بالانتقال إلى مباحثات على المستوى السياسي، إذ ظلّت دمشق متمسّكة بمطلبها وضْع جدول زمني واضح لخروج القوّات التركية من شمال سوريا وشمالها الغربي، وهو ما أبدت أنقرة موافقتها على تنفيذه بعْد ضمان تأمين حدودها، والتأكّد من عدم حدوث موجات نزوح جديدة تُجهض مساعيها القائمة للتخلّص من عبء اللاجئين السوريين. وتَرافق ظهور تلك التعقيدات مع دخول الدولة الثالثة الضامنة في «مسار أستانا» الروسي (إيران) على خطّ المفاوضات، الأمر الذي رحّبت به جميع الأطراف المعنيّة، في وقت صعّدت فيه الولايات المتحدة سياسياً وميدانياً في الملفّ السوري، بهدف منْع روسيا من تحقيق أيّ خرق في المشهد القائم.
على أن زلزال السادس من شباط الذي ضرب سوريا وتركيا، وما أَحدثهُ من كارثة إنسانية، أعاد ترتيب الأوراق السياسية في المنطقة، دافعاً عواصم عربية عدّة إلى مفارقة موقفها المتردّد حيال الانفتاح على دمشق، مثلما فعلت القاهرة التي كسرت الجمود السياسي، وأيضاً الرياض التي تلعب مسقط وأبو ظبي دوراً في «عودتها» إلى سوريا. وتزايدت، في الأيام الماضية، الأنباء عن زيارة مرتقَبة لوزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، لدمشق، وهو ما لم يثبّته أو ينفِه ابن فرحان، وإنْ أكّد تغيّر المقاربة الخليجية والعربية للسياسة القائمة تجاه سوريا، وشدّد على ضرورة الحوار مع دمشق، والذي يبدو أن المملكة تستعجله قبل انعقاد القمّة العربية المقرَّرة نهاية آذار المقبل على أراضيها، وسط حديث عن إمكانية تأجيلها لاستكمال الترتيبات اللازمة لإعادة سوريا إلى مقعدها المجمَّد في «الجامعة».
بالتوازي مع ذلك، أعلن نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، استمرار العمل على تنظيم لقاء رُباعي بين أنقرة ودمشق وموسكو وطهران خلال الفترة المقبلة، من دون أن يحدّد موعداً لهذا اللقاء. لكن المتحدّث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، عبّر عن تفاؤل بلاده بانعقاده قريباً، مشيراً إلى أن «الاتصالات والمشاورات بين كبار دبلوماسيّي سوريا وإيران وروسيا وتركيا تتواصل بشأن اللقاءات الدورية بين الدول الأربع بشكل جدّي». وتأتي عودة الحديث عن تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة، في وقت تشهد فيه تركيا ارتفاعاً ملحوظاً في منسوب خطاب الكراهية والعنصرية تجاه السوريين على خلفيّة الأزمة الإنسانية التي تعانيها البلاد من جرّاء زلزال قهرمان ماراش، والتي دفعت السلطات إلى تكثيف عمليات ترحيل السوريين، ضمن خطّة لإعادة مليون لاجئ إلى بلادهم (تمّ ترحيل 20 ألف سوري في الأيام اللاحقة للكارثة، وفق ما أعلنت وزارة الدفاع التركية).
ويبدو الحديث عن استكمال العمل على خطّ دمشق - أنقرة، متوافقاً مع التوجّه التركي لإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها المقرّر سابقاً (في شهر أيار المقبل)، بعدما رفض الرئيس رجب طيب إردوغان، وهو زعيم حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، مقترحاً تَقدّم به أعضاء في حزبه لتأجيل موعد الانتخابات بسبب الزلزال، وفق ما ذكرت صحيفة «حرييت» التركية، مضيفةً إن البتّ النهائي في الموعد سيتمّ بعد نقاش يُجريه إردوغان مع حليفه دولت بهجلي، زعيم «الحركة القومية التركية». أيضاً، يأتي هذا الحديث بعدما تمكّنت دمشق من إجهاض حملة أميركية للاستثمار في تداعيات الزلزال، سامِحةً بإدخال مساعدات إنسانية إلى المناطق الخارجة عن سيطرتها في الشمال والشمال الغربي من البلاد عبر الحدود (من تركيا)، في مقابل رفْض «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً) إدخال مساعدات عبر الخطوط، وتناغُمها في ذلك مع التوجّه الأميركي التصعيدي. وكانت الولايات المتحدة قد وجدت نفسها مجبَرة على تقديم بعض «التنازلات» إثر تصاعُد الأصوات المطالبة بتخفيف الحصار على سوريا؛ إذ عمدت وزارة الخزانة الأميركية إلى تجميد بعض العقوبات (منْع التحويلات المالية) لمدّة ستّة أشهر، لتحذو حذوها دول الاتحاد الأوروبي التي أعلنت هي الأخرى السماح بإرسال مساعدات إغاثية عبر جمعيات ومنظّمات إنسانية للمدّة نفسها، وهو ما بدأ سريانه عبر وصول معونات من النرويج وألمانيا وإيطاليا إلى سوريا خلال الأيام الماضية.


نهاية الجمود الميداني: تركيا تُجدّد هجماتها
جمّد الزلزال المدمّر الذي ضرب كلّاً من سوريا وتركيا في السادس من شباط، ديناميات الجبهات في الشمال السوري، حيث توقّفت تماماً الاشتباكات بين «قسد» وفصائل «الجيش الوطني» المدعوم من أنقرة. إلّا أن هذا الجمود كسرتْه، عصر الأربعاء، طائرة مسيّرة تركية، استهدفت «جيباً» في قرية بويرة على طريق عام القامشلي - القحطانية، ما أدّى إلى «مقتل مدني، وإصابة عنصر في "الأسايش» كانا بداخلها»، وفق ما أكّدت وسائل إعلام كردية. ولم يتأخّر القائد العام لـ«قسد»، مظلوم عبدي، في التنديد بالهجوم، قائلاً إنه «من دون اكتراث بالمأساة الإنسانية التي تشهدها سوريا وتركيا، وفيما تتوجّه كل الجهود الدولية والإقليمية نحو إرسال مساعدات إلى المناطق المنكوبة، يُواصل النظام التركي أعماله الإجرامية ضدّ الشعب الكردي، متذرّعاً بحجج واهية»، في المقابل، أعلنت الاستخبارات التركية، أمس، أنها «تمكّنت من تحييد خليل منجي، عضو تنظيم "حزب العمال الكردستاني"، والذي لعب دوراً رئيساً في تخطيط وتنفيذ التفجير الإرهابي في شارع الاستقلال في إسطنبول». وكانت تركيا اتّهمت «الوحدات الكردية» بالوقوف وراء التفجير الذي وقع في الـ13 من تشرين الثاني الماضي، مُصدّرةً ذلك كمبرّر لأيّ هجوم جديد على مناطق سيطرة «قسد»، وكعنصر ضغط على واشنطن بوصفها داعمة لـ«إرهابيين» يعملون ضدّ أنقرة.
(الأخبار)