تشهد فلسطين أخيراً، حراكات تتجاوز التنظيمات الفلسطينية، فبعد عام 2014 الذي شهد حرباً على غزة، بدأت الجماهير الفلسطينية بأخذ منحى غير منظم لمحاربة العدو الصهيوني في أماكن وجوده كافة، وخلال هذه المحاولات غير المنظمة، شهد القطاع معارك عدة، كان الغرض منها محاولة تحقيق أهداف جمعية لا تتعلق بالقطاع وحده، مثلما شهدنا قبل عام 2021.
هبّة السكاكين وحماسة الشباب الفلسطيني
بعد عملية «الجرف الصامد» 2014 على غزة بعام تقريباً، تفجّرت هبة السكاكين في القدس على يد الشباب الفلسطيني، بعد أن أطلقها الشهيد مهند الحلبي باستخدامه السكين، ولسان حاله يقول: هذا أضعف الإيمان أمام الاحتلال وممارساته التي تستهدف وجود الفلسطينيين في القدس، فكان من الطبيعي أن يأتي مثل هذا الرد عليها.
مهدّت هذه الهبّة لهبّات أخرى، كهبّة باب الأسباط عام 2017. وهبّة باب الرحمة 2019، وهبّة باب العمود 2021، التي حققت انتصارات وقتية انتشى بها الكل الفلسطيني، كما فتحت الباب على العمليات الفرديّة من طعن ودهس وإطلاق نار على نقاط الحواجز العسكريّة التي تخنق الفلسطينيين منذ أعوام كثيرة. ولم يقف صداها هنا فقط، بل جعلت التنظيمات الفلسطينية تفعّل أدواتها -مثل الصواريخ- لقضّية جمعيّة تهم الكل الفلسطيني.

المقاومة جدوى مستمرة
نحت الشهيد باسل الأعرج مصطلح «المثقّف المشتبك» عطفاً على تلك العملية، وأصبح هذا المصطلح ملتصقاً به، ويثير الفخر لدى غير المتحزبين من أبناء الشعب الفلسطيني، كما أنه يثير السخرية لدى بعض أبناء التنظيمات الذين يرون أن فعل الشهيد مجرّد من العقلانيّة التي يحصرونها في قيادة الأحزاب المهترئة والمنفصلة عن الواقع الفلسطيني، والتي لا تلبّي أدنى حاجات الجماهير الفلسطينيّة.
ذيلت عبارة «المقاومة جدوى مستمرة» وصية الشهيد التي خطّها بيده قبيل استشهاده، فصارت واقعاً تنتمي إليه غالبية الشعب الفلسطيني، وفاتحة طريق للعمليات الفرديّة المسلحة من بعده. عمليات غير محصورة بما يريده المنفذ وحده، بل تشبه نوعاً ما «الإحسان بالثأر» أي شباب فلسطيني يثأر لشباب فلسطيني، في رفضٍ ضمني لوصف «الذئب المنفرد» الذي يحمل دلالة «إرهابيّة»، كون النضال الفلسطيني في نظر هذا الشباب مشروع ضد المحتل في كل فلسطين التاريخيّة.

هبّة أيّار... حارس الأسوار النائم
تفاجأ الكيان الصهيوني في أيّار 2021 من الهبّة الشعبيّة في فلسطين التاريخيّة، وبخاصة ما حدث داخل مدينة اللد، مع بداية أحداث معركة «سيف القدس». فعلى مدار السنوات الماضية حاول الاحتلال بكل قوته أسرلة المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل، بعد فشله في اقتلاعه من أرضه، وعلى الرغم من الصدمة التي سببها الفلسطينيون للكيان الصهيوني حينها، حاول الكيان إخماد نيران الهبة، ونجح نسبياً عن طريق الحبس مع الغرامات العالية وفرض العقوبات الماليّة على فلسطينيي الداخل.
تلك الحالة التي توهجت، امتدت لتصبح صانعة لسردية فلسطينية واحدة، فأصبح أبناء غزّة والضفة الغربية والداخل والشتات، يتحدثون عن اليوم التالي لتحرير فلسطين، وامتلأت صفحاتهم الشخصيّة على مواقع التواصل الاجتماعي بهذه الآراء، وقد ساعد ذلك على صناعة رأي عام واحد للكل الفلسطيني ضد سرديّة الاحتلال، وكان كل هذا بشكل غير مخطط له، ومن غير أن يتوقعه أحد.

مجموعات الضفة والتديّن الشعبي
في العام الماضي، ظهرت المجموعات المسلحة في الضفّة الغربيّة («عرين الأسود»، «عش الدبابير»، «كتيبة جنين»، وغيرها) ومن أهم ما يميّز هذه المجموعات أنها شبابية رافضة لحالة الخنوع التي تعيشها الفصائل الفلسطينية، ففيها أبناء التنظيمات المتمردين على قيادتهم، وقد انخرطوا في هذه المجموعات مفضلين العمل المسلح على العمل السياسي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تم حل «كتائب شهداء الأقصى» عام 2008 بذريعة القضاء على الفلتان الأمني، إلا أن أبناءها الرافضين لهذا الأمر، انخرطوا بعد تلك السنين، بالمجموعات المسلحة آنفة الذكر.
وكما هو واضح، تحظى هذه المجموعات، بالتفاف جماهيري واسع في فلسطين، ورفض من قيادة السلطة وبعض الأحزاب. ولعل أسباب هذا الالتفاف، تكمن في أن هذه المجموعات غير الهرميّة وغير المنظمة، تشبه الجماهير الفلسطينية من حيث التديّن الشعبي السائد وتدخين السجائر ومتابعة «التيك توك»، إلا أنه من الواضح أنه ينقصها الحس الأمني التنظيمي، وهو ما عليها تداركه كي لا يتم اختراقها وتبديد جمعها.
في النهاية، المشهد الفلسطيني ذاهب لتجاوز التنظيمات بشكلها التقليدي، ويحتاج، في الوقت عينه، إلى قيادة حكيمة تلبّي طموحات الشعب الفلسطيني وتوحده في أماكن وجوده كافة. وعليه، يجب أن يكون الهم الفلسطيني هو القاسم المشترك والموحد، وأن تكون القيادة منسجمة مع ذلك، لا أن تكون عامل تفرقة، وألا يكون انتباهها منصّباً على مصالحها الشخصية فقط لا غير.