عقب انتهاء العملية الأمنية في البلدة القديمة في نابلس، أظهرَ مقطع مصوّر عدداً من المستوطِنين، وهم يقيمون طقوساً احتفالية على حاجز زعترة المتاخم لمدينة نابلس، ويرقصون على وقْع أغنية عبرية، مُوزِّعين الحلوى على الجنود. مشهدٌ بدا وكأنه استلاب للسلوك الشعبي العفوي في المخيّمات والمدن الفلسطينية، والذي يَعقب كلّ عملية فدائية. أمّا في نابلس، التي كانت تتجهّز لتوديع عشرة من أبنائها، ستّة منهم من المقاومين، فظَهر المشهد وكأنه شريط مسجَّل لحدث سابق: بيت أثري قديم، يشبه بالضبط المكان الذي اغتيل فيه المطارَد إبراهيم النابلسي في التاسع من آب الماضي، بل وقريبٌ أيضاً منه، يتحصّن فيه مقاومان بينما يسجّلان اللحظات الأخيرة من أنفاسهما بمقاطع عفوية تتقارب في مضمونها وألفاظها حتى، مع ما قاله ابن الـ19 سنة (الشهيد النابلسي) قبل خمسة شهور من الآن. قال حسام سليم في رسالته: «بسلمش حالي، لا تتركوا البارودة، بدنا زلام ورانا تكمل الطريق، أنا بحب كلّ الناس، لا تنسوا وصية الوديع والنابلسي، أنا بحب أمي، أنا تحاصرت مع أخوي الجنيدي». أمّا محمد أبو بكر الجنيدي، فقد بعث هو الآخر برسالة مماثلة، ختمها بعبارة باللغة المحكيّة، تقصّدها على ما يبدو: «ما قبلنا نسلّم حالنا، ادعولنا واحنا كلنا على درب الشهداء، ما هربنا وظلّينا زلاااام». هكذا وثّق نجما الحدث وأيقونتا الأيام المقبلة، اللحظات الأخيرة الفاصلة بين الحياة والموت في البلدة القديمة، التي كانت شاهدةً على صورة أخرى بدت مكرَّرة. إذ ظهرت والدة الشهيد محمد الجنيدي، واقفةً قبالة جثمان ابنها بهيئة تُشبه هيئة والدة النابلسي: امرأة ملتزمة وقورة السمت، تُظهر رباطة جأش غريبة، وتتهيّأ لحمْل جثمان نجلها وتقدُّم مشيّعيه، كما فعلت هدى جرار. من بين الشهداء أيضاً، وليد الدخيل، شقيق الشهيد محمد، الذي اغتالتْه «قوّة اليمام» نفسها، في وضح النهار وسط حيّ المخفية في 11/2/2022، رِفقة أشرف المبسلط وأدهم مبروكة. «شيء ما تَغيّر في البلدة القديمة في نابلس منذ ذلك التاريخ»، يقول أحد سكّانها لـ«الأخبار»، فيما الأكيد الذي لا يحتاج إلى لبيب لقوله أن أشياء كثيرة تَغيّرت عقب اغتيال عبود صبح ومحمد العزيزي ومحمد حرز الله وإبراهيم النابلسي.
بطل آخر في مشهد الأمس، هو مصعب عويص، ابن الـ24 ربيعاً، الذي اندفع من مخيم بلاطة حيث يسكن، ليذود عن رفاقه في البلدة القديمة. أمّا القائد محمد الجنيدي، الذي لم يتجاوز عمره الـ23 سنة، وكان قد أصيب في عمره النضالي القصير نسبياً، بـ6 رصاصات، إحداها في رأسه، وبـ36 شظيّة في جسده، فقد قال في رسالته الأخيرة: «ظلّينا زلاااام»، بينما غبار القذائف أفْقده على الأرجح النظر في عينه الوحيدة التي أبقتْها له الجراح ليبصر بها. من جهته، كان حسام سليم (24 سنة)، الذي بدا في حديثه الأخير وكأنه المؤتمن على حاضر هذا الشعب ومستقبله: «بدنا زلام تحمل البارودة من بَعدنا»، قد نفّذ بيده عملية «شافي شمرون»، وقضى الأسابيع الأخيرة في حياته «بطلاً» مطارَداً تحفّ به أدعية البسطاء بالرعاية والحماية.
شيء ما تَغيّر في البلدة القديمة. لم تَعُد المقاهي تضع في مسجّلاتها أغاني أم كلثوم في الصباح وفيروز في المساء. أضحى نشيد البلدة: «تشهد علينا حارة الياسمينة... لما بالدم حفرنا أسامينا»، فيما يغنّي الأطفال بصوت جماعي: «خاوة نعلم عليكم... خاوة في هالشوارع ندعس معاليكم». شيء ما يشبه اليقين، بأن مشهد توزيع المستوطِنين الحلوى على حاجز زعترة، سيَعقبه في قادم الأيام مشهد حقيقي في شوارع نابلس وجنين وكلّ فلسطين، يرسمه «بطل» جديد، سيعيد إلى الحياة خيري علقم وحسين قراقع وغيرهما.


تأهّب على حدود غزّة
بعد ساعات على جريمة نابلس التي أدّت إلى استشهاد عدد من المواطنين والمقاومين الفلسطينيين، وتلويح الجناح العسكري لحركة «حماس» بأن «صبر المقاومة في غزة آخذ في النفاد»، رفعت قوات الاحتلال في المناطق القريبة من القطاع، من درجة تأهّبها خشية ردّ فلسطيني متوقّع من غزة. وأفادت مصادر عبرية بأن الجيش الإسرائيلي عزّز استنفاره تحسّباً لإطلاق صواريخ، وعمل على تعزيز منظومة «القبّة الحديدية»، فيما ذكر موقع «كودكود» العبري أن الفصائل الفلسطينية في غزة أطلقت، بالتزامن مع عملية نابلس، صواريخ باتّجاه البحر، كجزء من اشتغالها على تحسين قدراتها، وأيضاً كرسالة إلى إسرائيل على خلفيّة جريمتها الجديدة. ورافقت ذلك تغريدةٌ مقتضبة لـ«أبو عبيدة»، الناطق العسكري باسم «كتائب القسام»، قال فيها إن «المقاومة في غزة تُراقب جرائم العدو المتصاعدة تجاه أهلنا في الضفة المحتلّة، وصبرها آخذ بالنفاد».
(الأخبار)