سارع عدد كبير من الدول الأجنبية، بعد وقوع زلزال السادس من شباط، إلى تقديم المساعدة والدعم لتركيا، عبر إرسال فِرق إنقاذ أو مواد إنسانية غذائية أو طبّية أو خيام وبطانيات. ومن بين الصور التي عكسها الإعلام التركي، في هذا الإطار، واحدة لوزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، وهو يحمل في هاتاي مدفأة غاز ويقدّمها إلى أحد المنكوبين. وتفيد المعلومات الرسمية بأن فِرقاً - مجموعها أكثر من 11 ألف شخص - ومساعدات من 88 دولة وصلت إلى تركيا، التي انهالت عليها أيضاً زيارات الدعم والتضامن والتعزية من جانب زعماء الدول، ولا سيما أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني. ومع أن مِثل هذه الزيارات تُعتبر عادية في موسم النكبات، غير أن أكثر ما شدّ الانتباه فيها، هو زيارات مسؤولين - غالباً ما يكونون وزراء خارجية - في دول هي على خلافات - أحياناً دمويّة - مع تركيا، وهو ما أعطاها أبعاداً تتعدّى الجانب الإنساني، لتصبّ في مجريات العلاقات السياسية. ولعلّ من أبرز الزيارات «السياسية»، تلك التي قام بها وزراء خارجية كلّ من: أرمينيا، اليونان، إسرائيل، الولايات المتحدة، وأمين عام «حلف شمال الأطلسي»، مع توقُّع وصول وزير الخارجية الألماني في أيّ لحظة. هذه «الهجمة» الدولية على تركيا، يصفها بعض المعلّقين الموالين لـ«حزب العدالة والتنمية»، بأنها «ردّ جميل» لبلادهم على المساعدات التي كانت تقدّمها، في السنوات الماضية، لعدد كبير من الدول الآسيوية والأفريقية، فضلاً عن كونها «تضامناً طبيعياً»، ولا سيما من الدول الأوروبية والغربية تجاه عضو في «الناتو». وإذا كانت العلاقات التركية مع الحلف تمرّ في ظروف «غير طبيعية»، فإن الجانب الإنساني يعكس «أضعف الإيمان» فيها، ولا يكلّف خصوم تركيا شيئاً، بل لربّما شكّلت المساعدات الكبيرة فرصة للبعض لكي يكذّب المثل التركي الشائع بأنه «لا صديق للتركي سوى التركي».وعن هذا، يقول برهان الدين دوران، الباحث البارز في الشؤون الاستراتيجية والمقرّب من الرئيس رجب طيب إردوغان، إن «ديبلوماسية الزلازل» يمكن أن تسهم في تطوير العلاقات بين المتخاصمين، ولا سيما بالنسبة إلى أرمينيا واليونان وإسرائيل، مستدركاً بأنه «يجب أن لا نتوقّع أن تُحلّ المشكلات البنيوية الثنائية في لحظة واحدة. فتركيا لا يمكن أن تتجاهل أنها تدعم أذربيجان في سياق محاولات الحلّ السياسي بين باكو ويريفان، ولا تستطيع أن تتجاهل قضيّة القدس والمستوطنات أثناء تقاربها مع إسرائيل، ولا أن اليونان تسلّح جُزراً قبالتها، ضاربةً عرض الحائط بالاتفاقات السابقة». ويرى دوران، في مقالته في صحيفة «صباح»، أن «ديبلوماسية الزلازل يمكنها، بقدْرٍ ما، أن تسهم في إيجاد حلول لبعض المشكلات. فأمين عام الأطلسي لم يهمل، أثناء زيارته أنقرة، طرْح مسألة انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف. وفي حين قدّم بلينكن مساعدات لتركيا وسوريا بقيمة 185 مليون دولار، فإن مسألة بيع طائرات "أف-16" إلى أنقرة لم تحلّ، فيما تستمرّ واشنطن في دعم "حزب العمال الكردستاني" في شمال سوريا، وتُواصل إظهار المحبة لتنظيم "داعش". إن ديبلوماسية الزلازل تغيّر الصورة الشائعة عن الآخر، لكنها تحتاج إلى خطوات ملموسة لتصبح حقائق ثابتة». وينهي دوران مقالته بهجوم على المعارضة التركية، قائلاً إن «حالة أولئك الذين يلومون في كلّ فرصة بلادهم، هو مرض عضال لا شفاء منه».
شكّلت المساعدات الكبيرة فرصة للبعض لكي يكذّب المثل التركي الشائع بأنه «لا صديق للتركي سوى التركي»


وفي صحيفة «يني شفق» الموالية، يكتب ندرت إرسانيل، في مقالة بعنوان «زيارة "تعزية الزلزال" الأميركية»، أن «أجندة القوّة العظمى الأميركية لا تتعلّق بحجم الكوارث، فافتقارهم إلى العاطفة "مستقرّ" بمعزل عن حجم الكوارث». ويعرض إرسانيل نقاط الخلاف بين أنقرة وواشنطن، مختصراً إيّاها بـ«الموقف من عضوية السويد وفنلندا في حلف شمال الأطلسي، واعتراض واشنطن على الموقف التركي الحيادي من الحرب في أوكرانيا». وبحسب الكاتب، فإن «الولايات المتحدة تحاول في هذه المسألة الضغط على الدول التي بقيت على الهامش»، فيما تنتظر نتائج الانتخابات الرئاسية للبتّ في مسألة تزويد تركيا بطائرات «أف-16». ويخلص إلى القول إن «أميركا قدَّمت مساعدات وشكرناها. لكن عندما تتحدّث (الولايات المتحدة) عن شؤون العالم، فيجب أن لا يَنظر أحد إلى دموعها».
وفي الصحيفة نفسها، يرى قادر أوستون أن «التضامن الدولي مع تركيا قيد الاختبار أثناء عملية إغاثة المنكوبين». ويضيف الكاتب، وهو منسّق مركز «سيتا» التركي في الولايات المتحدة، أنه «من دواعي السرور أن يكون الدعم الدولي لتركيا على مستوى عالٍ للغاية. وقد أَظهرت المساعدات أن تركيا ليست وحدها. وما جرى مؤشّر إلى نجاح سياسة المساعدات التركية للعالم وأهميّتها في النظام الدولي». وكمثال على هذا التضامن، يشير الكاتب إلى زيارة وزير الخارجية الأميركي، وتجواله في منطقة الزلزال، ممّا «أعطى شعوراً لتركيا بأن حلفاءها معها، بخلاف موقف الإدارة الأميركية بعد انقلاب 15 تموز 2016، حين تأخّرت في إظهار ردّ فعلها وخرجت من البيت الأبيض تصريحات غامضة. كذلك، لم يكن تضامن الولايات المتحدة قوياً مع تركيا إبّان هجمات داعش بخلاف إدانتها القويّة لعمليات التنظيم داخل أوروبا. وهذا أثّر سلباً في العلاقات الثنائية، بينما كانت رسالة التعزية من جو بايدن في اليوم الأول للزلزال مهمّة. أيضاً، كان الإعلان أثناء زيارة بلينكن أن 600 من أصل ألف حاوية، قدّمها حلف شمال الأطلسي في طريقها إلى تركيا، مثيراً للرضى». ويضيف أن تقديم المساعدات الإنسانية يسهم في القضاء على انعدام الثقة المتبادل بين تركيا والولايات المتحدة. لكن الكاتب يشدّد على ضرورة «استمرار التضامن الداخلي للتحالف الغربي بموازاة عملية إعادة بناء تركيا بعد الزلزال والتي ستستغرق وقتاً طويلاً»، محذّراً من أنه «في حال شعرت تركيا أنها تُركت وحيدة، فسيكون من الصعب حلّ المشكلات ذات الأولوية في العلاقات التركية - الأميركية والتركية - الغربية، وسيكون هذا عائقاً أمام الاستقرار الإقليمي». وينهي مقالته بالقول إن «الخلافات لا تزال قائمة بين أنقرة وواشنطن في شأن موضوعات كثيرة. كذلك، فإن علاقة تركيا مع روسيا تجعل التعاون الكامل مع الولايات المتحدة أمراً صعباً».
ويرى الباحث المعروف والأكاديمي، منصور آق غون، من جهته، في صحيفة «قرار»، أن الزلزال «غيّر الطبيعة السياسية للعلاقات التركية مع أرمينيا واليونان وإسرائيل. بالتالي، ليس واقعيّاً أن لا يُغيّر موقف تركيا المُعارض لانضمام السويد وفنلندا إلى الحلف». ويقول آق غون إن «الجليد قد ذاب جزئياً في العلاقات التركية - الأميركية. لكن المشكلات لم تُحلّ جميعها، ولا تمّت إعادة التحالف بين البلدَين إلى سابق عهده. هذا غير ممكن في ظلّ استمرار الدعم الغربي للأكراد وجماعة فتح الله غولين والضغط على تركيا لفسخ علاقتها بروسيا». وينهي الكاتب مقالته، بالقول: «سيخفّف الزلزال والتضامن قليلاً من نظرتنا السلبية بعضنا لبعض، لكنهما لن يغيّرا طبيعة السياسة العالمية وبنيتها».