حسابات آل خليفة خائبة دوماً. فهُم يستندون إلى الغرباء والأعداء، لكنّهم لا يُسعفونهم. الفشل في كسْب ثقة الشعب يُحيلهم للتعويض عبر سياسات سُرعان ما ينكشف ضَعفها وطيْشها. وبمعزلٍ عن حجم القمع والأزمة المعيشية التي يعيشها البحرينيون جرّاء تمادي السلطة في تهميش حقوقهم والتجاوب معها، يسأل كثيرون، اليوم، عن السبب الحقيقي الذي دفع الملك حمد بن عيسى إلى اتّخاذ قرار التطبيع الرسمي مع الكيان الصهيوني. فمَن يستعيد بيانات سابقة صدرت عن المملكة تضامناً مع الشعب الفلسطيني ودعماً له، وآخرها قبل سنتَيْن فقط من توقيع «اتفاقات أبراهام» (بهدف تخصيص جزء من المنهج الدراسي لمادة التاريخ الحديث عن القدس باعتبارها عاصمة أبدية لدولة فلسطين)، لن يتوقّع هذه السرعة في الانقلاب من ضفّة إلى أخرى.ولكن بعد استفحال الأوضاع الداخلية ووصولها إلى حائط مسدود بين النظام والشعب، وغياب أجندة الإصلاح التي تُحاكي هواجس الأخير، ذهب الملك بعيداً في خياراته، مفضّلاً اللحاق بركب التطبيع، علّهُ بهذه الطريقة يستطيع إخضاع آلاف البحرينيين لتحالفاته التي لا تُشبههم، ولو بالقوّة. مصافحة الصهاينة واحتضانهم في أرض البحرين لم يُنجِ النظام، ولم يغسل سوء الأحوال المحلّية. فظلّ الشعب على موقفه ورأيه في كلّ ما يصدر عن السلطة، ولم يقتنع بكلّ ما تفرضه من ضرائب وغلاء صارخ وعزْل ومنْع وحظْر ورفْع للدَيْن العام، إلى حدودٍ قياسية وعجزٍ فاقع لا ينسجم ومداخيل أيّ دولة نفطية في العالم. إذ لا بيْعة شعبية تُرضيه ليسمو بها، بل إعراضٌ أكبر رسّخته نِسب المقاطعة لمسرحية الانتخابات النيابية والبلدية 2022 (الفصل التشريعي السادس).
ينسحب فقدان التأييد الجارف، الذي كان يُصدّقه النظام وحده، على التيارات التي كانت محسوبة عليه من خارج نادي المعارضة. شيئاً فشيئاً، بعد عام 2011، وتفجّر الأزمة السياسية، ثمّ تشريع العلاقات مع الاحتلال عام 2020، تلاشى دعْم «الإخوان المسلمين» والسلفيين والعلمانيين الذي اجتمعوا على رفْض التطبيع جملةً وتفصيلاً. ثلاثة وعشرون جمعية تحت عنوان «المبادرة الوطنية البحرينية لمناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني»، تتّفق، اليوم، على مواجهة مشاريع التهويد التي تُهدّد البحرين، على مرأى ومسمع النظام الذي لم يتمكّن من السيطرة التامّة على موقفها الثابت من فلسطين، بموازاة رفْع النخب الوطنية صوتها أيضاً رفضاً لتوجّه «الملك المعظّم».
إصابات الملك للأهداف التي وضعها عند جنوحه نحو المعاهدة مع الإسرائيليين، لم تتحقّق كما أراد. صُوّر له أن «أبراهام» ستفتح له باب التفوّق الأمني على الشعب، ليخرق كلّ بيت بحريني عبر تقنيات العدو المتقدّمة في التجسّس، حتى يُمسِك برقاب العباد ويُهدّدهم بهذه الورقة، لكنّ دعْم الكيان لم يجلب له إلّا مزيداً من النقمة بين أبناء الديرة الذين استمرّوا على حزمهم، فيما تعمّق الصراع بين الجانبيْن بشكل أكبر.
صُوّر للملك أن «أبراهام» ستفتح له باب التفوّق الأمني على الشعب


قد يتفاجأ البعض عندما يطّلعون على حجم المساعدات الخليجية (من الكويت والإمارات والسعودية)، التي يتّكئ عليها النظام البحريني لتشغيل اقتصاده، فالبلد نفطي بامتياز والقاعدة المنطقية تقول، إن مَن يُنتج 200 ألف برميل يومياً لا يجب أن يعتمد إلى هذا الحدّ على الديون والقروض والمعونات من الخارج. لكن الدولة لا تُجيب عن التناقض بين ارتفاع الإيرادات النفطية بنسبة 39% (بحسب تقديرات «صندوق النقد الدولي»)، وبلوغ الديْن العام حتى عام 2020 فقط، حوالى 19 مليار دينار، وتزايد فوائد القروض بأكثر من 5%. لا تفسير لدى أهل المعرفة سوى صرْف المساعدات في أماكن لا يستفيد منها الاقتصاد الوطني ببساطة. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم إعراض السعودية والإمارات عن ضخّ النقد للبحرين، أو كما سمّاه وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، في «مؤتمر دافوس» الأخير، «تغيير طريقة تقديم المساعدات للحلفاء والمتمثّلة بتقديم منح مباشرة وودائع من دون شروط».
أسبابٌ عدة تقف وراء هذا التعديل في العطاءات؛ قد يكون أبرزها التململ من فضائح الفساد المتواترة عن مسؤولي البحرين، والاستيلاء على الأموال العامّة والثروات والخيرات والتصرّف بها على أنها خاصّة مع تعاظم الحسابات المصرفية للملك وأُسرته الحاكمة. كلّ هذا لم يستطع التطبيع محْوه وتخليص الحلفاء الجدد من ورطتهم الداخلية، على رغم الاتفاقات التجارية التي هرولت المنامة لتوقيعها مع تل أبيب. فالتعاون الثنائي الذي انشغل وزير الصناعة والتجارة والسياحة السابق في البحرين، زايد الزياني، بتفنيده والحديث عن انعكاساته العظيمة، لم تتعدَّ قيمته الفعلية مبلغ 7.5 مليون دولار عام 2021 كتبادلٍ تجاري، وهذا رقم لا يعوّل عليه في عالم التجارة بين البلدان، فأين الرافعة التي مثّلها الإسرائيليون لاقتصاد آل خليفة؟
اتفاق العار والخيانة لم يُجمّل صيت البحرين السيّئ على الصعيد الحقوقي، فالمعركة ظلّت على أشدّها وآلاف المعتقلين السياسيين يُعرّون كلّ ادعاء إنسانيّ تطلقه السلطة. عذابات وتعسّف وحرمان من أبسط المعايير داخل الزنازين زادت من الضغط الدولي على المنامة، ولا سيّما على الساحة الحقوقية، إذ ظلّت المملكة تتلقّى مناشدات تحثّها على إطلاق سراح السجناء، وتوفير ظروف صحية ملائمة لهم. هذا إضافة إلى الزيارة الاستثنائية التي شكّلت ضربة قاصمة للملك، حين وطأ «بابا الفاتيكان فرنسيس» أرض البحرين، حيث أنصت جيّداً لكلّ الأصوات التي خاطبته من أجل إنصافها، فالحَبر الأعظم لم يهتمّ لتطبيع السلطة مع الصهاينة، بقدر ما ركّز على مُطالبته إيّاها باحترام حقوق الإنسان والحرية الدينية، داعياً إلى «ضمان عدم انتهاك حقوق الإنسان الأساسية والعمل على تعزيزها».
ماذا جنى إذاً الملك من كلّ هذا؟ غرق في أزماته أكثر، ولم يسلَم من اللوم الموجّه إليه سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ومعيشياً. الشعب عينه على قوته وحريّته، والحاكم منغمسٌ في حبّ إسرائيل.

*كاتبة صحافية لبنانية